«الفضيلة» الوحيدة لـ«الربيع العربي»!؟

تشرين- رحيم هادي الشمخي:
يستمر جدل الأحزاب الدينية والسياسية وعلاقتها مع الدولة/الوطن، الذي برز بصورة واسعة جداً مع بدء ما يُسمى «الربيع العربي» أواخر عام 2010، وإذا ما اعتبرنا أن هذا الربيع انتهى فعلياً وما نعيشه اليوم هو التداعيات والنتائج، فإنه يفترض بهذا الجدل أن ينتهي، فلماذا لم ينته؟
.. والحزب، بالعموم، وقبل التصنيف والفرز، وحسب معظم التعاريف هو جماعة من الناس تلتقي في الأفكار والرؤى والتوجهات، لها برنامج عمل واحد تجمعها بقعة جغرافية محددة، قد تكون غالبية أو أقلية داخل مجتمعها، مؤثرة أو تسعى للتأثير، ولتكوين مكانة ودور داخل محيطها، هذا السعي يندرج في إطار الأهداف وخطط التنفيذ، وتالياً هذه الأهداف هي في مسماها الأخير مسعى للاستحواذ على القول والفعل، أي على القرار الجماعي (قرار الناس).. أي الاستحواذ في النهاية على سلطة إدارة الناس والمجتمع (ثم الحكم/الدولة) لتحقيق منفعة متبادلة أو نصف متبادلة، حيث إن الشخصي أو الخاص يطغى بشكل أو بآخر على العام أي على المصلحة العامة، وفي أحيان كثيرة تجيير المصلحة العامة برمتها لمصلحة ذلك الشخصي والعام.
ولكن ليس بالضرورة أن هذا واقع الحال في كل زمان ومكان، هناك واقع مختلف يحدده الناس أنفسهم سواء أولئك الذين داخل الحزب المعني أو خارجه، لتصبح الكفة متوازنة نوعاً، وليكون القرار متبادلاً، أي قرار المكانة والدور والتأثير الذي يصبح بيد الطرفين، الحزب والناس. لذلك نرى الأحزاب تتصدر في المناسبات الاجتماعية، كالانتخابات مثلاً، لتطرح برامجها، ورؤيتها لتطوير مجتمعاتها، وجعلها أكثر رفاهية وقوة، وكذلك حلولها للأزمات والمشكلات.. كل ذلك يتم بصورة مدروسة بعناية ودقة للتأثير واجتذاب الناس، وتالياً الاستحواذ على الحكم والقرار. وفي هذا الإطار تحرص الأحزاب على برامج تطورها وتعدلها حسب المرحلة ومتطلباتها، وحسب أهواء ومطالب الناس واحتياجاتها المتغيرة، لذلك تؤكد على الدوام أن لا شيء نهائياً أو مطلقاً في برامجها (باستثناء القواعد الأساسية.. وهي أخلاقية وجدانية بالعموم كالصدق والمسؤولية والتفاني والاستقلالية… الخ) وأن الناس هي من يحدد بالنهاية مسار الأحزاب وتوجهاتها وما تريده منها، دون أن يعني ذلك أن الأحزاب تكون هي الطرف المتلقي فقط.. بل غالباً ما تعمل الأحزاب على التأثير في الناس لاجتذابها وفق خطط دعائية طويلة الأمد لذلك فإن ردود فعل الناس بالمجمل تأتي على هوى الأحزاب ووفق ما تحب وتهوى.
الآن.. بعد التصنيف والفرز، تنقسم الأحزاب عموماً إلى أحزاب سياسية وأخرى دينية (إضافة إلى أحزاب خرجت في العصر الحديث كالأحزاب التي تعنى بالبيئة على سبيل المثال). وفي التعريف يمكن أن تقال الأمور نفسها عنهما لناحية الأهداف والمساعي والطموحات، إذ لا يكاد يوجد حزب واحد لا يسعى للوصول إلى سلطة الفعل والقرار، أي إلى الحكم، حكم البلاد والعباد.. وكل شخص ينضم إلى هذا الحزب أو ذاك يعني أنه ينضم إلى أهدافه ومساعيه، استناداً إلى أنه مؤمن بها، ويضع نفسه في خدمة تحقيقها، إضافة إلى المنافع التي يجنيها من هذا الانضمام في حال وصل حزبه إلى السلطة.
.. مع ذلك فإن هناك اختلافاً أساسياً وجوهرياً، يجعل الأحزاب الدينية والسياسية مختلفة كلياً، بل ومتصادمة، وأحياناً متصارعة متحاربة (ومتحالفة كشذوذ عن القاعدة لتحقيق أجندات مشبوهة وخبيثة).
عندما يتم تكوين حزب على أسس دينية فإنه يصبح حزباً لفئة معينة من الناس (داخل مجتمع أو دولة).. ويكون الولاء للدين أو بعبارة أدق لطائفة دينية محددة، وليس للوطن، وبالتالي فإن الطائفة وقوانينها (وليس الدين الحقيقي) هي مصدر السلطات والقرار والحكم، لا تقبل تداول السلطة، ليس هناك من مساحة للاختلاف أو للحياد، كل شيء يعارض ويخالف قوانينها ووصايتها على الناس مرفوض، تحلل وتحرم وفق أهوائها وما تستطيع تطويعه من أحكام الدين لمصلحتها.. حتى تصبح في نهاية المطاف هي الدين نفسه.
.. هذا الحال هو بالنقيض من الأحزاب السياسية التي تفتح أبوابها لجميع الناس من دون تمييز، الاختلاف في هذه الأحزاب مطلوب وضروري خصوصاً عندما يكون هناك أحزاب منافسة، لا تتعاطى بالشؤون الدينية وعلاقاتها مع الأحزاب الدينية غالباً ما تكون إشكالية. الرفض والقبول حق شخصي، دون خضوع لمسألة الاحساس بالذنب الذي تكرسه الأحزاب الدينية، العلاقة مع الوطن (أو الدولة) هي أكثر وضوحاً مع الأحزاب السياسية، الأحزاب الدينية لا تراهن على وطنيتك أو موقفك الوطني بقدر ما تراهن على تأييدك الأعمى من دون جدال ولا نقاش. الطائفه هي الأساس (إذا لم تكن معها فأنت ضد دينك) هذه هي القاعدة.

ما سبق لا يعني بالمطلق أن الأحزاب الدينية هي شر مطلق، وأن الأحزاب السياسية هي خير مطلق، الخير والشر كامن في كلا الطرفين، لكن الفئة التي تقود هذه الأحزاب هي من يحدد ويقرر، علماً أنه ليس كل الأحزاب الدينية تشتغل بالسياسة أو تتعاطى بأمور السياسة والحكم، هناك الكثير من الأحزاب الدينية اختارت أن تعمل في قضايا دينية دنيوية مجتمعية لخدمة أكبر عدد ممكن من الناس، سواء من الدين نفسه أو من أديان أخرى.
هناك أحزاب دينية في وطننا العربي كانت السباقة في إعلاء شأن الوطن والدفاع عنه والتضحية في سبيله من دون أن تلجأ إلى التلاعب بعقول الناس أو تجيير الدين لمصالحها، أو إصدار فتاوى التحريم والتحليل على هواها، هناك أحزاب دينية ما زالت تحافظ على سجل ناصع مشرف حتى وهي تتصدر الساحات السياسية، حيث الوطن يعلو ولا يعلى.
لا يخفى على أحد أنه عندما يجري الحديث عن الأحزاب الدينية كشر مطلق.. فإن جماعة الإخوان المسلمين تتصدر ساحة الحديث، وهذه الجماعة تختص بتعريف مختلف عن كل الأحزاب الدينية، سواء منها الموجودة على الساحة المجتمعية أو على الساحة السياسية. وعلى شاكلة جماعة الإخوان المسلمين برزت جماعات «دينية» أخرى توسعت في تجيير الدين والشريعة لمصالحها الخاصة، وصولاً إلى حمل السلاح وتشكيل جماعات مسلحة تحلل قتل الآخر المختلف، وتحارب الدولة/الوطن، وتصدر فتاوى الإرهاب والتخريب والتدمير بحق الوطن وأهله طالما أنهم ليس على هوى فتاويها وأهدافها العدوانية.
عندما نتحدث عن هذه الأحزاب بالذات، لا يمكن إلا أن نتحدث عما يسمى «الربيع العربي» الذي فتح أمام هذه الأحزاب الدموية الإرهابية، ومنها الإخوان المسلمين، الباب الأوسع لتصبح أشرس إرهاباً وتخريباً.
ولكن جماعة الإخوان المسلمين كانت الأكثر انتفاعاً من هذا الربيع المشؤوم، حيث حققت من خلاله ما عجزت عن تحقيقه خلال عقود، وهي الوصول إلى حكم عدد من البلاد المتواجدة فيها (مصر وتونس أبرز مثالين). بالمجمل أي أحد لا ينكر أن للإخوان المسلمين حضور واسع في العديد من الدول العربية، هم ليسوا حزباً محصوراً بدولة محددة كما هي الأحزاب الدينية الأخرى، وليسوا حزباً حديث العهد، بل يكاد يُكمل قرناً من الزمان، حيث تأسس منذ عام 1928 ، وفي وثائق الأرشيف البريطاني فإن تأسيسه كان على يد بريطانيا، القوة الاستعمارية في ذلك الوقت، ليكون وكيلها في المنطقة العربية بعد انسحابها منها، حيث كانت حركات التحرر والمقاومة في أوجها، وكان لا بد للمستعمرين أن يندحروا عن أرضنا في نهاية المطاف، فعمدت كل دولة استعمارية إلى زرع كيان لها، وكانت جماعة الإخوان المسلمين إحدى هذه الكيانات.. بعدها وفي سبعينيات القرن الماضي انتقلت عمالة الإخوان من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأميركية وصولاً إلى زمن الربيع العربي المشؤوم.
أياً يكن من خلفيات التأسيس، فإن ما يهم هنا هو العقيدة العدائية اللاوطنية التي تعتنقها هذه الجماعة والتي لا تتورع عن إغراق الأوطان بالدماء في سبيل تحقيق أهدافها. في هذه العقيدة الولاء هو الأصل، والوطن هو بدعة حديثة لا يجب الاهتمام بها ولا التعويل عليها. لا تملك أي برنامج لحل مشكلات المجتمع، وهذا الأمر ليس من أولوياتها.. بل هي على العكس تغرق المجتمع في وحل الحرب الشاملة، أو ما يُعرف حرب الكل ضد الكل، فأينما ظهرت حل الخراب والانقسام داخل المجتمع، سواء كان متجانساً أو متعدداً مذهبياً ودينياً، ترى أنها الوحيدة الأحق والأصلح دون أن يهمها إذا كان الناس يرونها كذلك أم لا.
بشكل أو بآخر تعد جماعة الإخوان المسلمين هي «الأم الشرعية» لكل الأحزاب والتنظيمات الدينية المتصلة بما يسمى الإسلام السياسي خصوصاً الأشدها تطرفاً والتي تزداد إرهاباً ودموية منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ومنذ عقدين تقريباً ابتلت دولنا العربية بهذه التنظيمات، التي نشرت الدماء والفوضى في كل مكان، وما زال الربيع المشؤوم شاهداً حياً حاضراً عليها. مارست هذه الجماعة تأثيراً مدمراً على مجمل الأمة وتطورها ونهضتها وكل ما من شأنه تقويض استقرارها وأمنها وسيادتها، يكفي أن نتذكر كم المجازر وعمليات الاغتيال التي نفذتها والتهديدات التي فرضتها على المجتمعات المتواجدة فيها، وما زالت.. التاريخ في سورية ومصر وتونس ودول عدّة يشهد بذلك.. كان حال الإخوان تماماً وكأن المستعمر لا يزال جائماً فوق أرض الأمة.
وعليه يمكن القول: ربما كانت الفضيلة الوحيدة، إذا حق لنا استخدام كلمة فضيلة في هذا المنحى، أن ما يسمى بـ«الربيع العربي» أسقط آخر أوراق التوت عن جماعة الإخوان المسلمين، فسقطت دينياً وسياسياً واجتماعياً.. وحتى لو تكررت أحداث مماثلة في مرحلة لاحقة فمن غير المرجح أن يتسنى لهم فرصة مماثلة.

أكاديمي وكاتب عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار