في اليوم العالمي للغة العربيّة هل ما زالت تُعاني الإشكاليات ذاتها؟
تشرين-بديع منير صنيج:
«إن كانت الهوية جسماً فإن اللغة هي الروح»، بهذه العبارة يمكننا تلخيص العلاقة بين اللغة والهوية، على الرغم من الأسئلة الكثيرة وإشارات الاستفهام العديدة التي تُطرح عند الحديث عن وحدة الأمة العربية ومسار تطورها عبر الزمن، إلى جانب مسألة اضطراب تلك الهويّة حين تصطدم الفصحى بالعامّية، وتتأسس وفق ذلك مفارقة ثقافية ترسم الحدود والخصائص، وتفرّق بين الناس، وتصنّف الجماعات إلى طبقاتٍ تفتقر إلى لغةٍ جامعة في حياة التخاطب اليومي.
كل ذلك اللغط عزّز الجدل بشأن حماية الهويّة المشتركة من الاختراق والانشقاق بين مراكز قوى الجماعة الوطنية التي تعيش في بيئةٍ حضارية واحدة، كما يراها مؤلفو كتاب «اللغة والهوية.. إشكاليات تاريخية وثقافية وسياسية». وزاد الطين بلّة حسبهم تدخّل القوى الأجنبية في ترتيب برامج التعليم، ما فتح ثغرةً في إطار الوحدة خصوصاً في مرحلة الاستعمار وما خلّفه من تأثيراتٍ سلبية بعد خروجه.
لذا، فإن مسألة اللغة تطرح إشكاليات تاريخية تهدّد هويّة الفصحى بسبب اختلاف أسلوب التعليم في المغرب الأقصى والجزائر عن مناهج التدريس في مصر والمشرق العربي، ما دفع تيّارات النهضة إلى المطالبة بتجديد اللغة أحياناً أو تجديد الخطاب المشترك أحياناً أخرى. وجاء في الكتاب أن مسألة اللغة أثارت أيضاً إشكاليات اجتماعية انعكست ثقافيّاً على الوعي العربي، ما فتح الباب لنموّ أزمةٍ أخذت تضغط على الهويّة نتيجة ازدواجية التعامل بين لغةٍ مكتوبة وأخرى محكيّة، وأدّى التنوّع الثقافي في الوطن العربي إلى تعزيز إشكالية الاختيار ودفع الهويّات اللغوية من طور التعايش إلى التصادم، الأمر الذي رفع من درجة التأزّم، ونقلها من مستوى المأزق السياسي إلى مستوى أزمة الفكر.
وانتقلت الأزمة من ناحية أخرى إلى مجالات البحث العلمي الذي يعتمد ترجمات لمفاهيم ونظريات أنتجت في ثقافاتٍ أخرى، ما جعل الحال يتراوح بين السلب والإيجاب بسبب تداخل منظومات المعرفة المنقولة بالمفردات اللغوية المترجمة. كما طرح التشابك بين المعرفة واللغة مسألة استخدام لغات أخرى غير العربية في التدريس في الجامعات الخاصّة والحكومية، «ما أثار مشكلة عودة الاستعمار الثقافي واحتمال انكفاء اللغة الأمّ في التخاطب اليومي» كما يشير إلى ذلك كتاب «اللغة والهوية.. إشكاليات التعليم والترجمة والمصطلح» الذي ألفه مجموعة باحثين أوضحوا أنه في المقابل يشهد العالم تجاربَ مغايرة تؤشّر إلى إمكان إنجاز عمليات التحديث العلمي والتربوي باللغات الأمّ من دون الحاجة إلى استخدام مفردات منقولة بذريعة أنّ اللغة غير قادرة على استيعاب المصطلحات الجديدة أو التفاعل مع المفاهيم المشتقّة من مجالات الاختراعات والاكتشافات بحجّة التخلّف الاجتماعي.
ويبقى أن نؤكد أن اللغة العربية لا تتعارض مع التطوّر والتحديث، بل ربّما تكون قاعدة معرفية للتقدم العلمي المفتوح على ثقافات العالم المعاصر وإنجازاته. فاللغة بوصفها قوّة توحيد تستطيع أن تقوم بدورها في تعزيز المفردات وبناء هويّة في سياقٍ عربي معاصر لا يتخالف مع طموحات تحقيق التنمية والتفاعل الحضاري مع ثقافاتٍ أخرى، وتستطيع اللغة أيضاً الاستجابة لمتطلبات التقدّم من دون خوفٍ على الهويّة المتوارثة في حال جرى تحديث المصطلحات التقنية وتعزيز المعاجم بابتكار مفرداتٍ عربية تقارب المفاهيم المعاصرة، وتعطي المقابل اللفظي الصحيح للكلمات المترجمة.