سعد الدين كليب يُشاغل الجمال على وقع تجربة شعراء النخبة
تشرين-راوية زاهر:
في النقد الجمالي؛ (شعراء وتجارب) للدكتور سعد الدين كليب الصادر عن دائرة الثقافة – حكومة الشارقة – دولة الإمارات العربية المتحدة ٢٠٢٠م، كتاب يندرج تحت مسمى الدراسات النقدية، تناول بعد مقدمته خمسة أبواب بعناوين عريضة لتفاصيل الكتاب، ضمّ تجارب نخبة من الشعراء من أزمنة مختلفة، وقد اشتملت دراسات الكتاب على خمس تجارب جمالية مختلفة نسبيّاً في القيمة والبنية والأسلوب واللغة والرؤية والخطاب، فلكلّ منها منحاه الجمالي في وعي العالم، وفي إعادة إنتاجه فنيّاً.
خمس تجارب جمالية لخمسة شعراء عرب من مراحل وأجيال ونوازع مختلفة، وهم: عمر أبو ريشة، يوسف الصائغ، جوزيف حرب، سيف الرحبي، وصقر عليشي.
متنوعةٌ اهتماماتهم، فمنهم الشاعر الكلاسيكي المحدث، وشاعر قصيدة التفعيلة، وشاعر قصيدة النثر، وبينهم الشاعر الذي يزاوج بين الشكل العروضي الخليلي والشكل التفعيلي أو يزاوج بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر.
وبداية نقف مع تجربة السامي في شعر عمر أبي ريشة:
إذ تُشكل قصيدته علامة شعرية فارقة في النصف الأول من القرن العشرين، سواء أكان ذلك على المستوى اللغوي والأسلوبي، أم كان على المستوى الفني والجمالي.. وقد تربع أبو ريشة على قمة الكلاسيكية المحدثة في سورية، وسعى إلى وعي العالم جمالياً من منظور المحاكاة، كما حاول أن يعيد إنتاجه فنيّاً من منظور المقاربة، وأسلوبياً من منظور الاقتصاد اللغوي وموضوعاً من منظور الاستقلال الذاتي للموضوعات والأغراض أو ما سمي بوحدة الموضوع.
لقد تصدر السمو شعوراً وقيمة ومفهوماً لائحة القيم الجمالية في شعر أبي ريشة ما يؤكد أن منظومة القيم الإيجابية في هذا الشعر لا يمكن دراستها من دون مفهوم السمو. وتجربة السامي تمثل محور التجربة الجمالية، ومعجمه اللغوي يميل إلى الرفعة والسمو والكبرياء، متمثلاً بالحقل الشعوري (رهبة، حيرة، دهشة، ذهول، متعة)، والقيمي (الجمال، الحلال، الرجولة…) والمكاني الجبل، النجم، الأفق، الذرى، الأعالي).. يقول في قصيدة بعنوان (جبل):
“معاذَ خلال الكبْر ما كنت حاقداً
ولا غاصباً إن عاب مسراي عائبُ
فكم جبلٍ يغفو على النجم خدّه
وأذياله للسائمات ملاعبُ”.
وعن الحدس التراجيدي
في شعر يوسف الصائغ الذي شهد، وهو في منتصف عقده الثاني المحاولات الأولى للشعر الحر في العراق على يد نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب والبياتي، فقد امتلك يوسف الصائغ عدة حواس جمالية فنية يتلمس بها الواقع من حوله، ويعيد بناءه شعرياً بالاستفادة من تلك الحواس حسبما يقتضيه الموقف الشعوري، وقد يكون الصائغ من أوائل شعراء الحداثة الذين مالوا إلى التراسل الجمالي بين الأجناس والفنون المختلفة، مستفيداً من خبرته الإبداعية العملية فيها ومجرباً إياها في صياغة نص شعري خاص ومختلف.
وفي التجربة والحدس التراجيدي عند الصائغ يرى الناقد جعفر العلّاق في دراسته النقديّة والمعنونة بـ(شعرية الخوف.. قراءة في شعر يوسف الصايغ)، أن أكثر شعره احتفاءً بالخوف والهشاشة واللامعنى هو شعره في مجموعتيه (سيدة التفاحات الأربع)، و(من قصائد البلبل الأسود).. تحديداً لشعره صدمة الكابوس وحرقة الفجيعة “. وهو يؤكد أن شعرية الخوف، في قصائد يوسف الصائغ، هي فائض الذعر الداخلي عندما يفتك بنصوصه” ففي حين يرتبط التراجيدي بالعام، يرتبط العذابي بالخاص.. وقد استحضر موجبات الألم كافة، في صياغة نماذجه وصوره التراجيدية:
“جسدٌ عارٍ مقطوع الرأس
أصابعه متشبثةٌ ببقايا شعر أسود
يومض فيه خاتم عرسٍ ذهبيّ
وعلى العنق المقطوع بقايا قبلٍ متعجّلةٍ
توشك أن تتيبس”.
أما التجربة الثالثة فقد كانت في التجربة الجمالية في (مملكة الخبز والورد) لجوزيف حرب: ففي عالم من الاستمتاع الجمالي بمملكة الخبز والورد، وبالخصائص والقيم والقدرات التي تجعل منها عملاً شعريّاً من الطراز الرفيع، متوزعة على اثني عشر مشهداً شعريّاً، لكل مشهد منها عنوانه الخاص ومقاطعه أو قصائده المرقمة ترقيماً جماليّاً.. مشاهد ألوان الطيف إضافة إلى الأبيض والأسود، والعناوين الثلاثة غير اللونية وهي الفارس والمرأة والأرض.. فتلك المشاهد اللونية ما هي إلّا الأرواح أو الأطوار التي يمرّ بها الفارس في علاقته بالمرأة أو الأرض معاً في صراعه التراجيدي المميت ضد القباحة والفظاعة، متمثلة بالرّموز التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة للاستبداد والاستلاب.
تلخص الجمال والجلال مثلما تلخص القباحة والفظاعة والسّمو والبطولة.. وقد تبين أن تداخل الأجناس والأساليب هو الناظم الأسلوبي لمملكة الخبز والورد. وقد وجدنا أنفسنا أمام توليفة أجناسية خاصة تتداخل فيها الأساليب الجمالية..ومن مشهد جحيمي أخذنا هذا النص:
“الأرض قصرٌ من عظام
يلمع تحت الشمس، يبدو من بعيدٍ
كإله حاملٍ أكياس غمام
أبوابه جلود أطفالٍ إذا ما فُتحت أنّتْ”.
وفي المحور الرابع نجد: جمالية القبح وشعرية الغرابة لدى سيف الرحبي: حيث كثر في هذه الجمالية، وسيطرت المؤشرات الدالة على الاستلاب والاغتراب من مثل: الخراب والدمار والقتل والطغيان والذل والشقاء وما ينجم عنها من مؤشرات اغترابية ذات رائحة وجودية نفاذة مثل: الغثيان، والتوهان، والوحدة، والدهشة، والخوف، والسأم، والكآبة.
“يا أيتها البلدان النائية في روحي
يا أيتها الجزر المستيقظة في حلم القطارات
اقتربي قليلاً
أو ابتعدي قليلاً
أنت خطيئتنا الأزلية”.
وفي المحور الأخير نقف مع شاعر ينتمي إلى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في جمالية المتعة بين الألفة والدهشة للشاعر صقر عليشي: في تجربة متميزة ومتمايزة عما سواها في المشهد الشعري السوري الرّاهن إلى الحد الذي يسمح لنا بالقول: إنها تجربة الشّاعر صقر عليشي في المقام الأول. ولابدّ من القول إنها أنموذج قائم بذاته أسلوبيّاً وفنيّاً وجماليّاً.. تجربة تبعث على العذوبة. إن الشاعر في تعامله الفني مع العالم من منظور المتعة يحاول أن يرى في الموجع أو المحزن ما هو مضحك أو كوميدي، أي؛ تحويل المؤلم إلى مُلذ لا يكون باستعذاب العذاب بل بالسخرية منه والاستعلاء عليه وامتلاكه بالابتسامة والطرافة:
“أرأيت الألوان على الشرفات
أخبريني أيتها الحقول
أيّة تنهيدة تطلقين
عندما يرقد هذا النهر
على بطنك، بجسمه الثقيل البارد؟
أحبّ أن أذوق غامض التفاح
أكثر مما لو أذوق
ثمر الخلود”.