الملحّن الراحلُ زهير عيساوي.. ثمانية عشرعاماً على الرحيل
تشرين- سامر الشغري:
إذا أردنا أن نحكم على المبدع بما تركه من أثر على الناس بعد رحيله، لصنفنا الملحن الراحل زهير عيساوي في طليعة الملحنين السوريين، لأن أعماله هي من بين الأكثر رسوخاً في ذاكرة الجمهور والأكثر غناء من المطربين إن كان في سورية أو في الأقطار العربية.
تتجلى في أعمال عيساوي قدرته على التنوع والتجدد، فأغانيه شديدة الاختلاف من الشعبيات البسيطة إلى الطربيات الرصينة والتراث العربي الذي انفتح عليه وقدمه برؤيته، كما تفوق في التوزيع الموسيقي خلاف الكثير من أقرانه، مواكباً المدرسة المصرية ومبتعداً عن المدرسة الشامية التقليدية التي لم تعر كثير اهتمام للتوزيع أو لإدخال آلات جديدة، ثم إن إجادته التبسيط النغمي جعلت ألحانه تنتشر وترددها الألسنة.
ولكن عيساوي لم ينل إلا القليل من الاهتمام، ويكاد يكون بعد مرور 18 عاماً على رحيله شبه منسيّ، فالنقاد الذين عاصروه لم يصنفوه ضمن الكبار، وعدّوه من ملحني الطبقة الثانية، وأنه ملحن موهوب وليس مبدعاً، كما أن زهد عيساوي بالسفر والتنقل بين الأقطار جعل شهرته محصورة في النطاق المحلي.
ولد زهيرعيساوي في دمشق سنة 1941وجعله شغفه المبكر بالموسيقا يشبّ عن الطوق فلم يبد اهتماماً بالدراسة أو تعلم حرفة، بل لاحق أساتذة الموسيقا في دمشق آنذاك، وطلب العلم لديهم، فمن أمير البزق محمد عبد الكريم تعلم أصول المقامات والعزف ولاسيما على البزق، ومن حسن دركزللي القوالب الموسيقية والانتقال بين المقامات، وعندما أعلنت وزارة الثقافة في مطلع ستينيات القرن الماضي عن حاجتها لموسيقيين لتأسيس فرقة أمية للفنون الشعبية كان من أوائل المنضوين إليها، وهنالك عزز مقدرته على العزف ومعرفته في علم الأصوات والتوزيع.
عيساوي الذي كان صاحب صوت جميل، وكان يحلم بأن يصبح مطرباً ألجأته الظروف لأن يغني في الكورال، ثم عزم على أن يسلك درب التلحين، وكانت البداية مع المطربة اللبنانية دلال الشمالي (مطربة البعث) كما كانت تسمى، والتي كانت ترغب في تقديم أغنيات مختلفة عن الأعمال الوطنية والسياسية التي اشتهرت من خلالها، فوجدت ضالتها عند عيساوي لأنه كان يبحث بدوره عن صوت معروف ومقتدر ليعرض من خلاله موهبته للناس، فلحن لها نصاً لصديقه الشاعررفعت العاقل (لاهجر قصرك) الذي استوحاه من قصيدة ميسون بنت بحدل في تفضيل خيمة الشعر عند البدو على القصور، وقد ذاعت شهرة الأغنية الآفاق، وحصدت شعبية كبيرة واستهوت لاحقا مطربين نجوماً لإعادة غنائها من جورج وسوف وعاصي الحلاني وآلان مرعب وملحم زين ووفيق حبيب ورويدا عطية وغيرهم.
نجاح هذه الأغنية حدا عيساوي على أن يقدم أعمالاً أخرى باللهجة البدوية، وكانت المطربة سميرة توفيق رائدة هذا النمط وقتها، فغنت من ألحانه أعمالاً عدة أشهرها (واح واح واني بردانة)، ولم يشأ عيساوي أن تظل ألحانه مقتصرة على النمط الشعبي فأراد أن يثبت مقدرته في الأغاني الطربية، وكانت أهم مطربتين على الساحة السورية وقتها سحر مقلة ومها الجابري طريقه إلى ذلك.. لحن عيساوي لسحر عشرين أغنية وفقاً للباحث أحمد بوبس، و لعل من أشهر ألحانه لها (الحبايب عالمحبة عودونا سنة 1966) من كلمات الشاعر فوزي المغربي مستخدماً فيها ببراعة شديدة مقام الراست المفضل عنده مع مقدمة تطريبية غير مسبوقة في الغناء السوري، سنجد صدى لها لاحقاً مع مقدمة أغنية الحب كله لأم كلثوم، ولكن (الحبايب) لم تشتهر حقاً إلا بعد أن غناها جورج وسوف بعد عشرين سنة.
ومن خلال صوت سحر القوي طوع عيساوي التراث الخليجي، وقدمه بطريقته، فغنت له (يا مركب الهند) التي جعل منها لحناً سائراً جعل مطرباً بحجم محمد عبدو يعيد غناءه، ثم لحن لها (شلنا يا هوى) للشاعر فوزي المغربي موظفاً ببراعة شديدة الأكرديون بعزف صولو آخاذ مع إيقاع خليجي.
أما المطربة الجابري فقدم لحناً أخاذاً من كلمات شاعره المفضل فوزي المغربي وهو (كتير علينا لو حبينا) ومرة أخرى عاد الى مقام الراست التطريبي وإلى سولو الأكرديون في تناغم لافت.
هذه الألحان البديعة جعلت من عيساوي منجماً يقصده كبار المطربين في سورية ليغنوا رصيدهم، فلحن للمطرب الكبيرموفق بهجت (أصبح علينا الصبح يا زينة)، وللقدير عيسى مسوح (روحوا عني قولولا)، ولصاحبة الحنجرة الذهبية سهام ابراهيم (تعبوا الكلمات)، وللراحلين إنعام صالح وماهر مجدي: (يا بنتي يا أماني وليش دخلك)، وللفنان المعتزل أحمد فؤاد (حبيناكي دللناكي)، ومن خارج سورية لحن للمطربين اللبنانيين وليد توفيق (خطوة عزيزة) ولأحمد دوغان (سلامات).
عيساوي الذي كانت صحته تذوي شيئاً فشيئاً من جراء الحياة التي عاشها وما مر به من ظروف، تعاون في المرحلة الأخيرة من حياته مع الراحل فؤاد غازي في عملين أولهما (جدولاتك مجنونة)، أما الثاني فكان (تعب المشوار) للشاعر الراحل حسين حمزة، لتكون هذه الأغنية الخالدة بمنزلة الوداع الذي يختم رحلة عيساوي مع الألحان وسنوات عمره الثلاث والستين، ليرحل هذا الملحن عن عالمنا في 4 كانون الأول من عام 2004، والذي وصفه المطرب موفق بهجت بالفنان الرائع والصادق والاستثنائي وبالنقطة المضيئة في تاريخ الكثير من الفنانين.