رحلة في السؤال قراءةٌ في رواية غسان كامل ونوس «أوقات بريّة»

تشرين-زينب عز الدين الخير:
برية بامتياز هي الأوقات التي قضاها غسان كامل ونوس عبر صفحاته المئتين والعشرين، ساحباً معه كل منجز حضاري يستطيع سحبه إلى تلك البراري الشاسعة القابعة في أذهان البعض، وفي وجدان البعض الآخر!
برية بامتياز هي الأماكن التي دعانا لزيارتها، والأوقات التي أهداها لنا والقلوب التي كشف أمامنا أسرارها، فإذ بتلك القلوب تماماً كقلب إنسان الكهف صاحب الحفرة.تنبض بالحب والخوف والشهوة، لكن فيها ما هو أكثر وحشية مما في قلوب رفاق ذلك الكائن الضخم الذي «يمتد بضع عشرات من الأمتار ويرتفع ثلاثاً »، ويذهب بأبنائه إلى الغابة يعلمهم الوقوف، تمهيداً للسير على قدمين.

تفاصيل:
حين يسترسل الراوي في تداعياته، ويبقى القارئ في انتظار ما سينتهي إليه السرد في هذا الموضع، تتداخل عشرات التفاصيل بلغة أنيقة، مراتٍ تعرض رأي الكاتب في الأشياء وإحساسه بها بصورة مباشرة، ومرات يلجأ للرمز مستعيناً بأهل البراري ليشرح فهمه لحقائق الحياة التي يبدو أنها لن تتبدل في كل الأوقات البرية، وغير البرية، إنما الذي يتبدل هو قبول الناس لها وانعكاساتها عليهم .

البطل:
اختار غسان كامل ونوس لأوقاته البرية بطلاً مهزوماً بطبعه، مستسلماً براحة لحالة الخسارة، ولا تعنيه الانتصارات كبرت أم كانت صغيرة، ولا يؤمن باقتناص الفرص، ولن يجرؤ إن سنحت، وكل شيء يمكن تأجيله حتى الوقت المناسب، الذي لا يمكنه أن يأتيه وهو على هذه الدرجة من التردد واللامبالاة.. وكلما أراد أن يلتقط أنفاسه ويرتب ذهنه يهرب – بحكم طبيعة دراسته – إلى مقارنة بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، ويعطى السبق للأخير، أو يستدعي رجل الكهف؛ رجل الحفرة، أو أياً منهما على اعتبار أنهما لايزالان قابعين في وجدان أي رجل.. بلاغة أكثر من رائعة، وعمق روحاني بعيد الغور، يطالعان القارئ تقريباً في كل صفحة، ما أوقع الكاتب في مأزقٍ جلي، فقد جاء وصف البطل بالرجل المهزوم في غير موضع، ولم يطرحه الكاتب كشخص مميز في أي شيء، ولكن لغته مميزة، تحليله للأشياء مميز، التقاطه للعناصر المركبة للأحداث مميز.. ربما يحار القارئ إلى أي زمن تنتمي الأسطر التي أمامه، أو يضيع قليلاً بين أزمنة متداخلة، وأمكنة متداخلة هي الأخرى، فيقف قليلاً ليعيد تثبيت عرا النص أمامه، أو ربما يشق عليه الانتقال النوعي كل حين من الحفرة إلى الكهف، إلى البيت الطيني، إلى الغرفة المؤجرة في حي البؤس والتناقضات، إلى البراكة، إلى السجن، مع أن دليله في هذه الأمكنة واحدٌ؛ وهو سعيد الشاب الطالب، أو المهندس الذي يخدم الإلزامية.. سعيد الذي أدمن الهزيمة، الهامشي كيفما اتجه، المحميّ بالآخرين دوماً، من محبين أو غير محبين، دائماً كان من حوله يفرض عليه حماية غالية الثمن، في وجه كل المخاطر، كخطر الرسوب، وخطر الفشل والعقوبة والحرمان، وخطر الإغراء والجوع والبرد.. مخاطر ظلت تحف به على مسار السرد، وهو غير معني بدفع الحماة عنه لأنه سيألفهم بمرور الوقت.

والضدّ يظهر حسنه الضدّ:
لم يكن الكاتب منصفاً في عرضه للشخصية الضد .. شخصية سعدون التي أظهرت بعض محاسن شخصية البطل سعيد، سعدون رفيق غرفة الدراسة، الطبيب سلفاً، الذي دخل كلية الطب بعد دورة القفز المظلي، فهؤلاء كان مشوارهم في الأغلب قصيراً، وكل ما ارتدوه من سترات الحماية لم تجعلهم أقوياء أمام نظرائهم الذين دخلوا مثل تلك الكليات بالتعب والاجتهاد، شخصية سعدون في مجمل صفحات العمل: انتهازي، غايته تبرر الوسيلة على الصعد كلها، لكنه شخص واثق من نفسه، غير متردد، ينجز ما عليه بكفاءة، ابتداء من شراء حاجات العيش المشترك مع سعيد، وهما بعد طالبان في الجامعة، وحتى لعب دور الطبيب، فقد بدا طالب طب واسع الاطلاع، واسع الخبرة، حسبما حمله حديثه وحواراته المتناثرة على صفحات الرواية من حقائق طبية وعلمية وحياتية، وبذلك استحق دراسة اختصاصه بجدارة، واستحق نجاحاته الصغيرة بجدارة أيضاً وهذا يرجع – على ما أعتقد – إلى أن الكاتب أسقط تحليله الواعي لمثل هذه الشخصية على لسان صاحبها، تماماً كما حصل مع البطل سعيد، ،فأعطاه أبعاداً أكبر من حجمه، وجاء كلامه فوق مستوى الشخصية.

أوقات بريّة:
رواية جميلة، مستفزة، جريئة ، تؤرخ بفنية عالية لمرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم، تطرح عشرات الأسئلة المحيرة التي لاتزال جديرة بأن تطرح.
ونسأل مع غسان كامل ونوس بصوت من حقه أن يعلو: إلى متى ستستمر هزيمة الناس الطيبين، المسالمين، البسطاء الذين لا يرون في الحياة شيئاً يستحق سوى أن تُعاش بسلام؟!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار