معرض تشكيلي في عيادة .. وافد حيدر بعد (19) عاماً على الرحيل

لم يكن قد مرّ وقت طويل على إقامته معرضه التشكيلي (الأخير)؛ ربما لا يتجاوز يوما أو يومين في طرطوس حين أعلنت الحياة انتهاء الفسحة الزمانية التي منحتها للطبيب والفنان التشكيلي وافد حيدر، وها هي لوحاته بعد (19) سنة مركونةً كما أراد لها صاحبها، وكأنّ الزمن لايزالُ لا يعترفُ بشحِّ الحياة عليه ، بل ربما يحتجُ على بخلها على منحتها الضئيلة.. ربما هو الأمر الذي دفع زوجته الطبيبة والفنانة التشكيلية غادة زغبور لتنفض عن تلك اللوحات تعب السنين، وتعطيها جرعة حضور – لم تغب يوماً – مع صاحبها.. ومن أجل هذه الغاية سيكون للمكان حميميته الخاصة لهذه المناسبة..

صحيحٌ أنّ الكثير من الفنانين وجدوا أماكن بديلة عن الصالة لعرض أعمالهم التشكيلية، فلا تزال في الذاكرة معارض الفنانة التشكيلية ريم الخطيب، التي شكلت الأمكنة التي اختارتها حالة فنية وجمالية بذاتها كمحطة قطار الحجاز في قلب دمشق، أو إحدى حدائق المدينة، أو في صالة مسرح، غير أنّ اختيار الفنانة زغبور للعيادة التي أسستها مع رفيق دربها ولو لبضع الوقت؛ لا يؤكدُ وقعه الجمالي والحميمي أكثر من ذلك (السهم) الدلالي على الأدراج ، الذي بقي كما وضعه صاحبه منذ سنين طويلة، وهو يُشير إلى مكان العيادة في الطابق الثالث (عيادة وافد حيدر وغادة زغبور).. على جدران هذه العيادة اختارت زغبور وبحسها الفني أن تعلق لوحات وافد حيدر ليبقى معرضاً دائم الحضور وليس لعدة أيامٍ وحسب..
وكانت زغبور وبالذكرى ال(19) لرحيل وافد؛ كشفت عن صور آخر معارض الراحل، التي تنوعت – كما تقول – بين المحلي والأماكن التي زاراها معا: ألمانيا، هولندا، امريكا/نيويورك/واشنطن.. كما عرضت بعض الصور مع شرحٍ موجز عن بعض التفاصيل.. وتذكر إن الفنان الراحل لم يستخدم في أي منها (كاميرا ديجيتال)، وإنما كانت كلها يدوية مثل: (Practica-Zenet-Nikon-olympus) متنقلاً بين فتحات العدسة والزووم وسرعة الالتقاط، ولم يكن آخر معارضه إلا مقارنة ومقاربة بين المحلي والعالمي بصيغة إنسانية، وقد حازت صورة التقطها لتمثال الحريّة وأمامه نورس يعيش على فتات السياح وبمحاذاتها صورة لحمائم من قرية الفنانة (بكدره) تقول: كان والدي يعتني بها، والتي من الصعب أن تجدها على موقع (غوغل) بتعداد سكانها البسيط؛ تلك اللوحة التي نالت إعجابا كبيرا، وكأن النورس الحزين يرمق الحمامات بتعجب وهي تطير فرحة وبحرّية في فضائها أكثر منه.
وتُضيف غادة: حرص وافد في ذلك المعرض على الترتيب في المكان والنوع، وعلى وضع بعض العبارات الشعرية لأصدقاء له منهم: عبدو زغبور ، كاتب شاعر ومترجم، وفيصل حجار، شاعر، رغدان أبو صالح ، شاعر..
وتختم: ما أريد قوله: أحسستُ بفرحٍ كبير، وأنا أكتب اسم وافد حيدر على صوره لعرضها هنا، وأنا أراهُ يبتسم‘ لي.
في هذا المعرض الاستعادي لوافد حيدر؛ فإن مبادرة الدكتورة غادة كانت محاولة لاستعراض زمن غابر، كان وافد حيدر ثبته في لحظة كانت في طريقها للهروب، وهو الأمر الذي يبدو غاية الغايات لفن التصوير الضوئي؛ تثيبت اللحظة والزمن الهاربين إلى الأبد، فكيف هنا، وقد تعدد اللحظات والأماكن لتُعادلُ عمراً بكامله، هنا لا يملُّ يُستعاد في كل مرةٍ بمشاعر مختلفة وجديدة..
هنا يبدو وافد حيدر مولعاً بالضوء، ذلك الضوء الذي يصطاده بعين عدسة لا تخيب مرماها، لاسيما ذلك الضوء الذي يأتي من فتحات – كوات ونوافذ- الأماكن القديمة، ذلك الضوء الذي يأتي بأطياف كل من مروا من هنا، قاطنين، وغزاة، ومعماريين أقاموا هذا الصرح الذي يُدعى اليوم بالأثري، وحكايا أو تأويل كل الحكايا لناس هذا المكان، أضف لما يرسمه الضوء من ألوان أخرى، وتدريجات لونية أشبه بصيدٍ وافر وثمين لعمق الحكاية..
ولا يكتفي حيدر بالتواشيح التي يصنعها الضوء في الأماكن الأثرية وحسب، وإنما ثمة غرامٌ يشدّه صوب حالات ريفية، تُضاهي رواية في سعة تأويلها، ولعلّ أبرز مشهد لها منشر الغسيل في حاكورة البيت، بمعنى ذلك (المنشر) الذي لا يعرف الشرفات، وإنما الذي يبتعد عن البيت الريفي قليلاً، وليروي مع كل قميص منشور، وكل لون لجاكيت، أو فستان حكاية صاحبها اليومية وشقائه الذي يظهر من عراك لم يستطع الغسلُ إخفاءه.. كأنه يسعى ليسبر من خلال هذه المظاهر للكشف عن مشاعر، وطباع الأشخاص التي كانت ترتديها أو ليلفت نظرنا لمشاهد أخرى، لا نُعيرها اهتماماً خلال لهاثنا اليومي الطويل، ومن ثمّ يدعونا لتأملها حيناً، وللرفق بها طوراً، وتارةً للانتباه لما يُحيطُ بنا من جماليات، ربما قد نرحل عن هذا العالم، من دون أن تتسنى
لنا فرصة للتمتع والاستمتاع بها!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار