واشنطن تسعى لوضع موسكو تحت قوس “عدالة الجنائية الدوليّة “
لطالما كان للولايات المتحدة مفهومها الخاص تجاه المحكمة الجنائية الدولية بما يعبّر عن سياساتها الخارجية، ويحقق مصالحها، ويؤيد سيطرتها وهيمنتها على هذه المحكمة وموظفيها والدول الأعضاء ، ويدعم قفزها على القانون الدولي وهروبها من المحاسبة والعقاب، إذ تدرك الولايات المتحدة أن أغلبية أفعالها تندرج في إطار مخالفة قوانين وقرارات هذه المحكمة، وأنها لن تكون بمأمن ولن تنجو بأفعالها وجرائمها، ما لم تُحكم قبضتها عليها، واهتمت بشن الحملات الدعائية ضدها وبمحاولات تقويضها.
لكنها ، ومع ذلك ، انتقلت من مرحلة تقويضها إلى مرحلة دعمها ، وتحويلها إلى أداة لمعاقبة أعدائها ، ومن تريد التخلص منهم ، وتشويه سمعتهم ، بعدما تغلب الضجيج في توجهاتها لمصلحة تلميع تاريخها ، والتخلص من ماضيها الدامي وجرائم الحرب التي ارتكبتها ضد الشعوب والدول والإنسانية جمعاء ، و وجدت ضالتها بدفع التاريخ الروسي وقيادته السابقة والحالية نحو قوس العدالة الأممي والمحكمة الجنائية الدولية ، وبأنها ،أي المحكمة، الجيدة الموثوقة والصادقة والقادرة على محاسبة المسؤولين الروس في أوكرانيا على نحوٍ خاص ، وليس بمحاسبة الأمريكيين والإسرائيليين وقوات الناتو وعسكريي الدول الأوروبية الذين يشاركون منذ 2014 في ارتكاب جرائم الحرب ضد الأهالي في دونباس ، والمحاصرين اليوم في مصانع اّزوفستال في ماريوبل.
من المهم العودة إلى تاريخ واشنطن والمحكمة الجنائية الدولية منذ نشأتها في 2002 ، وملاحظة رفض واشنطن الانضمام إلى ميثاق المحكمة ، وقيام إدارة ترامب بتهديد المحكمة ، وبفرض العقوبات عليها ، وعلى أهمّ موظفيها عام 2020 ، إذ وصفها وزير خارجيته مايك بومبيو بأنها “مؤسسة محطمة وفاسدة تماماً”، وقامت إدارة بايدن بإلغاء تلك العقوبات عام 2021 ، لكنها أكدت معارضتها لإجراءات المحكمة في الملفين الأفغاني والفلسطيني.
مؤخراً وفي 15/ آذار ، أقرّ مجلس الشيوخ بالإجماع القرار رقم 546 الذي يسمح باستخدام المحكمة الجنائية الدولية في الملف الأوكراني ، والاستفادة من الحملة الإعلامية الأمريكية – الأوروبية ضد روسيا وبزعم “ارتكابها جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”، وترجمتها تحت قوس “العدالة” الأممية المسيّسة في ظل الهيمنة الأمريكية عليها.
ولهذا الغرض افتتح مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية ، تحقيقاً بما يحصل في أوكرانيا ، خَلُصَ فيه من خلال الفحص الأولي ، إلى “أساسٍ معقول للاعتقاد بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا” وحول “الغزو الروسي الذي يشكّل عدواناً غير قانوني” ، و”ما يستجد ارتكابه من أي طرف على الأراضي الأوكرانية” ، علماً أن مناقشة حالة “العدوان” ليست من اختصاص هذه المحكمة التي اعتمدت قانون روما أساساً لها .
وفي ظل قراءة موسكو لما تخطط له واشنطن ، عبر استخدام المحكمة الجنائية الدولية ، أكد سيرغي ليونيدشينكو رئيس القسم القانوني في البعثة الدائمة الروسية لدى الأمم المتحدة أن المحكمة الجنائية الدولية ، تكاد تكون أداةً سياسية وبعيدة عن العدالة ، وأشار بذلك إلى نظيريه الأمريكي والبريطاني ، وعرض للجهود التي بذلاها في جلسة مناقشات الأمم المتحدة في 28/نيسان ، لحماية جيشيهما من المحكمة الجنائية الدولية” ، التي لن تُعير تحقيقاتها أي اهتمام جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية والبريطانية في أفغانستان والعراق وسورية ، بما يكشف مدى غياب حيادية المحكمة وعدالتها ، التي تحولت – حسب ليونيدشينكو- إلى “مهزلة” .
لا يمكن تجاهل حقيقة النفاق الأمريكي والدول التي تدور في فلكها ، وتمسكها بازدواجية المعايير ، ومسرحيات إصابتهم بالرعب والألم والحزن ، في حال سقوط مدنيين في أوكرانيا نتيجة القصف الروسي ، ولا تنتابهم المشاعر ذاتها , عندما يُقتل المدنيون على أيدي جنودهم ومرتزقتهم وشركات القتل خاصتهم ( بلاك ووتر ) وغيرها ، وسط استمرار إدارة بايدن في معارضة تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية حيال جرائم الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة.