كما في كل صباح، كنت أرتشف فنجان قهوتي المعتاد على نشرة أخبار الثامنة قبل الخروج من المنزل، حين بثت الإذاعة ، قبل الانتقال إلى وصلتها الموسيقية المألوفة، إشهاراً للمرة الأولى لشركة الخطوط الجوية البريطانية تعلن فيه عن فتح رحلة تجارية منتظمة، من لندن إلى دمشق عبر باريس وعمان، بسعر زهيد جدا، يعادل سبعة آلاف ليرة، بسعر صرف ذلك الحين، ذهاباً واياباً لمدة شهر. كان ذلك في شتاء عام 1996 وكان يصادف آخر يوم من شهر رمضان.
لم يكن موضوع السفر إلى سورية ضمن حساباتي إطلاقاً في ذلك الوقت، لكن الإعلان أغواني بشدة، فأرجأت خروجي من المنزل بضع دقائق إضافية ريثما تفتتح مكاتب الحجز عند الساعة التاسعة، للتأكد من صحة الخبر، وأخذ كافة المعلومات، كي أدرسها بهدوء بعد وصولي إلى المكتب.
أتساءل الآن :كيف استطاعت تلك الشابة المغربية الحسناء في أحد فروع شركة الخطوط الجوية البريطانية حسم ترددي بسهولة، وجعلي أتخذ قرار السفر على متن أول رحلة تجريبية إلى دمشق مساء اليوم التالي، وخروجي من مكتبها بعد دقائق بتذكرة سفر لم أخطط له مسبقاً، وفي الطريق إلى المكتب حيث أعمل بدأت الصور، التي غابت عن ذاكرتي زهاء عقد من الزمن، تتدفق بغزارة في مخيلتي كشريط سينمائي عن سورية التي لم تفارق وجداني يوماً، وعن الأهل والأصدقاء الذين سألتقيهم بعد يوم ونيف.
دخلت المكتب فصرخ ممدوح أين أنت يارجل، انشغل بالنا عليك. لقد تناولنا طعام الفطور اليوم من دونك.
حطت الطائرة في مطار دمشق الدولي في تمام الخامسة صباحاً . لم يكن على متنها سوى عشرين مسافراً بعد أن أفرغت معظم ركابها في عَمٌان. كنت أجرّ حقيبتي الممتلئة بتثاقل من جراء التعب ورهبة اللقاء مع أول سلطة رسمية بعد طول غياب.
نظر الضابط الشاب في جواز سفري المجدد من قِبَلِ سفارتنا بباريس، ثم نهض مادّاً يده من النافذة ومرحّباً بالقول : أهلاً وسهلاً بك في بلدك أستاذ. في أي صحيفة كنت تعمل؟. قلت في تشرين. فالتفت إلى أحد عناصره وطلب منه أن يحمل حقيبتي إلى موقف سيارات الأجرة.
كان الفجر قد بدأ يشق عتمة الليل عندما انطلقت التاكسي باتجاه دمشق، فسألني السائق إلى أين سنذهبً؟ فأجبته على الفور: إلى الجامع الأموي من فضلك. أريد أن أشاهد بهجة العيد في أبهى صورها. أريد أن أقطف فرح الناس من وجوههم بعد طول غياب. وستكون أنت معي. ثم نتابع طريقنا إلى وجهة بعيدة عن دمشق، إلى بيت الأهل . ضحك وقال: طبعاً كل مشوار بحسابه.
كانت الشمس ترسل ضوءها ببطء كلما اقتربنا من ضواحي العاصمة، وحين ركن السائق السيارة في حي الحريقة كانت مكبرات الصوت قد بدأت تصدح بتكبيرات العيد، فانتابني شعور بالغبطة افتقدته طويلاً، فاغرورقت عيناي بدمعتين انذرفتا رغماً عني، فربت أبو خالد يده على كتفي، ودمدم ” يبدو أن غربتك كانت طويلة يا استاذ. لا عليك، هذا حال معظم السوريين،” مرجوعهم” إلى بلدهم مهما ابتعدوا”
لم يكن أحد من الأهل على علم بوصولي. لقد تغيرت كل معالم الحي الذي غادرته قبل عشر سنوات. نهضت أبنية ومحال تجارية على جانبي الطريق، لم تكن موجودة من قبل، فضاع بيت أهلي عن ناظري بين زحام الأبنية.
كان ثمة اطفال يلهون بمفرقعات العيد، سألتهم عن منزل الوالد، فأشاروا بإصبعهم نحوه وكانوا بالقرب منه، ثم استغربوا كيف نزلت من السيارة وتوجهت نحوه، وقرعت الجرس.
تبين لي بعد لحظات أنهم كانوا أبناء وبنات إخوتي وأخواتي.
إنها الغربة التي أخشى مكرهاً أن تداهمني مرة ثانية في خريف العمر.