في ذكرى رحيله ال(24).. نزار قباني مُستبدلاً الأعمدة بأنفاس العطور والفساتين
“اغضب كما تشاءُ،
واجرح أحاسيسي كما تشاءُ،
حطّم أواني الزّهرِ والمرايا،
هدّدْ بحبِّ امرأةٍ سوايا..
فكلُّ ما تفعلهُ سواءُ..
كلُّ ما تقولهُ سواءُ..
فأنتَ كالأطفالِ يا حبيبي نحبّهمْ..
مهما لنا أساؤوا..
اغضب! فأنتَ رائعٌ حقاً متى تثورُ
اغضب! فلولا الموجُ ما تكوَّنت بحورُ..”
بين سنة (1923و1998)؛ (75) سنة ستمنحها الحياة لنزار قباني ليبدأ شاغلاً للناس منذ سنة 1944، ولم ينفك القوم بالسجال حول كل ما قدمه إلى اليوم..
فقد أصدر نزار قباني بين (1944 و 1993) ديواناً شعرياً مُحصناً بما يُماثله من نثر في مدى إحدى وأربعين مجموعةٍ شعرية ونثرية، بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى “قالت لي السمراء” 1944، وحتى مجموعته الأخيرة “أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء” 1993.. نتاجٌ شعري تميز صاحبه بأسلوبه الخاص في التركيز على التفاصيل الصغيرة، نظراً لحرارة اﻷداء الشعري عنده.. الأمر الذي دعى ناقداً كحسن قطوسة لأن يؤكد: “أقولها بكلِّ ثقةٍ؛ كان نزار يملك أكثرَ من الشعر، وﻻ يستطيعُ أي كان أن يتطرق للشعر العربي سواء أكان قارئاً، أو متذوقاً، أو شاعراً دون المرور بربوع نزار قباني..”
مرّت أمس؛ ذكرى رحيل الشاعر السوري نزار قباني (30/4/1998)، هذا الشاعر الذي لايزالُ يُثيرُ الجدل في كل مُناسبة يُذكر فيها، سجالٌ حول غير قضية، منها قضايا تشكلت منذ نصوصه الأولى، تلك النصوص التي استدعت أعضاء البرلمان السوري حينها للاجتماع والتدوال بشأنها، وانقسم القوم حينها (على خبز وحشيش وقمر) بين مُكفرٍ للشاعر، وقومٌ قلة وجدت له مخرجاً ما لحرية مُثقف من حقه أن يُعيد صياغة المُعتاد بمفهومٍ آخر، ونظرة جديدة للحياة، ومن يومها، ولايزالُ القومُ يختلفون بما أنجزهُ شاعر البيت الدمشقي.. الذي يراه الشاعرُ العراقي أسعد الجبوري إنه “الشاعرُ الفذ كاسرُ قَماقِم الفراهيدي، ومُستبدل الأعمدة بأنفاس العطور والفساتين واستغاثات النهود، ومحوّل البيت الشعري إلى نوفوتيه للبهجة وللجماليات.. الشاعرُ المستعيد روح الكلاسيكيات إلى الغرام الملتهب بنشوة الطيور الضَّوَارِي وبالنيران الخارجة من اِحتاك كلمات العاشقين ببعضها لإحياء تظاهرات الشغف فيما تبقى من الأفئدة”..
إذ ثمة قضايا جديدة تتولد مع كل قراءة جدّية لما أنجزه نزار قباني ومدى أهميته وأسبقيته وتجديده.. أربعٌ وعشرون سنة، ولم يتفق قُرّاء أو حتى ليسوا قراء، فالكثير ممن تحدث في شعره لم يقرأه، وإنما بنى رأيه لما قد قيل بحق الرجل وشعره فيما مضى.. وإذا لم يكن من أهميّة لما أنجزه نزار قباني غير مسألة (الجدل) في شعره إلى اليوم؛ فيكفي ذلك لتأكيد أهمية القول الشعري والفكري عند شاعرٍ استثنائي أمسى قطباً من أقطاب ليس الشعر السوري فحسب؛ بل الشعر العربي كله من محيطه إلى خليجه، وصار “مذهباً” شعرياً رواده اليوم في مختلف أرجاء العالم العربي يصيغون على منحى قوله الشعري سواء في البنية أو في شواغل القصيدة، وهنا لابأس أن نُذكر؛ إن أقطاب الشعر العربي، يُمكن تكثيفها في ثلاثة، ونقولها، وبعيداً عن نوازع أي “إقليمية” إنّ هؤلاء الثلاثة كانوا سوريين حتى العظم، وهم نزار قباني كشاعر لغة، عندما أنزلها من أبراج جزالتها إلى صحون العامة ومطابخ ربات البيوت، ومحمد الماغوط كشاعر تراكيب، له اليد الطولى في زحزحة المفردات من سياقاتها المعتادة، ووضعها في عمارة فنية تهكمية مختلفة، بعد منحها مهماتٍ جمالية لغوية مفعمة بالحزن غير ما عُرفت به لسنواتٍ بعيدة، وهناك أدونيس الشاعر الذي لا يهدأ على تجدد يُحرك “الثابت” في “متحوّلٍ” لا يلوي على سكون، شاعرٌ مُفكر أعلى من شأن القصيدة إلى مستوى الفلسفة.
وتأتي ميزة الغنائية العالية في قصيدة نزار قباني؛ إنها أغنت الأغنية العربية نفسها، وشكلت لها نبعاً لا يُمكن لمائه النضوب، فلاتزالُ تُشكّل إغواءً للملحنين لتصدح بها حناجرُ كبار المطربين من مشرق العالم العربي إلى مغربه..
“لا تسـألوني ما اسمهُ حبيبي؛
أخشى عليكمْ ضوعةَ الطيوبِ..
زقُّ العـبيرِ.. إنْ حـطّمتموهُ غـرقتُمُ بعاطـرٍ سـكيبِ
والله.. لو بُحـتُ بأيِّ حرفٍ تكدَّسَ الليـلكُ في الدروبِ”
وأهميّة ما قدمه نزار قباني؛ تكمن في جسارته وشجاعته عندما أطلق سهام القصيدة التي نزلت كحامض على كلس المجتمعات وأعرافها القديمة، وهو أيضاً ما اشتغل عليه القطبان الآخران لسنين محنٍ مجتمعية.. وأخيراً نختم بما تفجرت به مخيلة الشاعر صقر عليشي وعاطفته خلال تشييع الشاعر سنة 1998:
“أَمِيرٌ من اليَاسَمِينِ المُضَاءْ
يَسيرُ عَلَى الأَرْضِ حِيناً..
وَحِيناً
يَسيرُ عَلَى طُرُقَاتِ السّمَاءْ
أَمِيرٌ كَماَ المُسْتَقِيمْ
دَارَتْ عَلَيهِ الدّوَائِرُ، لَكِنّهُ
لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الوَقْتُ لِلانْحِنَاءْ”