إنصاف

مَرّ بي في المقهى وأنا وحدي مع فنجاني، أيامَ كان ارتياد المقهى ممكناً وبسيطاً في انفراج الوقت بين تعبِ وتعب! كان يحمل بيده كيساً فيه نُسخٌ من روايته الجديدة وبدا مسروراً من المصادفة التي جمعتني به ووفّرت عليه الاتصال لإهدائي الرواية! وطال الحديثُ بعد التسامح مع الوقت، عن المتاعب التي عاناها من دار النشر رغم أنه صار من الكتّاب المعروفين ومقدرته على النشر في المؤسسات الرسمية التي يعتبرها البوابة لعبور الكاتب المهم! وعرَضاً ذكرتُ له أنني تلقيت منذ أيام مجموعةً قصصية لكاتبة غزيرةِ الإنتاج ولم أفتحها بعد، لأن القراءةَ مزاجٌ هي الأخرى مثل الكتابة! امتعض الرجل مباشرةً كأن الانفعال كان مخبّأً في جيبه وقال: أيُ كاتبةٍ هذه؟ لم أجد عندها جملة واحدة ذات روح في كل قصصها ورواياتها! وبآلية التخاطر تذكرت صديقةً قالت لي ذات يوم إنها اصطحبت روايات الكاتبة نفسها في سفر طويل وخفّفت عنها الوحشة والليالي الفارغة بعد انتهائها من العمل الذي سافرت من أجله، وأنها مشت معها في المدن التي رأتها بعين أخرى مشبعة بالحنين والعذوبة وطول البال على التفاصيل! ثم جاءت انطباعات أخرى كأنها غزوٌ لأرض فارغة من دون دفاعات: شاعرةٌ تهاجم شاعراً لا تستحق قصائدُه القراءة، بَلْهَ الاحتفاء به على المنابر! قاصٌّ يستريح من كتابة القصة في تناول كاتب نال من الشهرة والتبجيل ما لا يستحقُّ، خاصة إذا تمّ تحليلُ مضامين ما يكتب والأسلوب التقليدي الذي يكتب به من دون أن يجنح، ولو جنوحاً بسيطاً إلى الحداثة!
-هي عداوة “الكار”؟ أحسب أن المسألة أعقدُ من ذلك، لأن الكتابة تستعصي على وضع مقياسٍ للبراعة كما حال “الكارات” الأخرى! وفي السياق نفسه تذكرت مخرجةً كان النقد “الخافتُ” لها من الممثلين، أنها تريد من كل واحد منهم أن يؤدي دوره بأسلوب تقديمِه من قبلها فيما لو كانت هي من يؤدي الدور! لا تترك المخرجة هامشاً للممثل يتحرك فيه بمعرفته أو بطريقة تخيُّله للشخصية، ومع ذلك تستمرُّ بالأسلوب نفسه ويستمرُّ الانتقاد “الصامت” لها! ويبدو أن الكاتب يرى نفسه بالطريقة ذاتها بين الكتَّاب، وأن طريقته في معالجة الموضوع هي المثلى لذلك يعطي رأياً قاسياً وناجزاً بغيره!
لعلّ ضفة الوقوف بجوار المبدعين من أي مبدع، لا تكون إلّا بالإنصاف، والإنصاف أبعد قليلاً من العدالة وأوسع لأن فيه استيفاءَ حقٍّ أي إزالة الظلم!
أضع الرواية الجديدة في حقيبتي وأخرج برفقة الكاتب ليمضي كل واحد منا إلى شؤونه، وحالي يشبه حال الممثلين باحتجاجهم الصامت لأنني لا أستطيع القول له: – كن منصفاً في تقييم زملاء الإبداع ليكون الفضاء الذي تملؤونه أنقى!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار