الأزمة الأوكرانية.. بعد آخر للصراع
لربما من نافلة القول إن نظرة الغرب لكل ما هو ليس غربي، أو بمعنى أدق لكل ما هو شرقي تحديداً، تقوم على أن هذا الأخير يقبع في الدرك الأسفل على “سلم الحضارة”، بل هو عاجز، بنيوياً، عن الارتقاء صعوداً على ذلك السلم والوصول إلى المراتب التي وصلها الأول، وهذه النظرة ليست بجديدة، ولا مستحدثة، وإنما تعود في جذورها إلى عهود غابرة.
وفي تتبع تلك الظاهرة يمكن لنا الاستنتاج أن تلك الصورة لم تتغير كثيراً، بل على العكس فإنها ازدادت تعمقاً وتطرفاً في بنائها الذي أرساه السلف الغابر.
يقول أرسطو، أحد أقدم الفلاسفة الغربيين: “إن لدى الآسيويين (المشرقيين) عبودية فطرية”، ويقول كارل ماركس أشهر الفلاسفة الألمان في القرن التاسع عشر: إن “الاستعمار الإنكليزي للهند قد أخرج هذه البلاد من عزلتها الهمجية وانغلاقها أمام العالم المتحضر”، وفي القرن العشرين يقول الفيلسوف تياردو شاردان: “كلما نظرت إلى طبائع الشرقيين وفكرت في أصلها وجدته كامناً في نوعية مناخهم الجغرافي”، ثم يضيف مواطنه الفرنسي ريمون شار في سياق وصفه للمشرقيين: “إن سرعة التلذذ بالشر المتجذرة فيهم تبدو ضرورة فيزيولوجية”.
مجمل هذه الرؤى التي يطرحها المفكرون والفلاسفة الغربيون عن الشرق، والتي تشكل المزاج العام الذي تغرف منه السياسة توجهاتها، تقول إن هذا الأخير “متخلف”، وإن العرق الأبيض “متفوق” على ما دونه، وهو يملك الحق في الهيمنة على الشعوب من أجل نشر رسالته التاريخية في تهذيب وتحضير العالم المتخلف، وأن هذا الشرق لا يمكن له أن يتطور بعيداً عن موجه يحدد بوصلته ويعطيها المسار الصحيح.
هذه النظرة الغربية التي عمّقها المفكرون والمستشرقون، الذين لعبوا دوراً بارزاً في تكوينها لاعتبارات تتعلق بمصالح الدول التي خرجوا منها، كانت قد مهدت الطريق لغزوات وحروب كبرى كان الشرق فيها هو المستهدف الأول، ومن يتابع تلك النظرة، مما يمكن تلمسه في أقوال المفكرين والفلاسفة الواردة آنفاً، سيرى أن تلك النظرة لم تتغير رغم الاحتكاك الكبير الذي أتاحته القفزات العلمية الهائلة في العصر الحديث وانخراط الشرق كعضو فاعل في مساراتها، إضافة إلى أنها أعطت فرصة للإطلاع على الحضارة الشرقية بعيداً عن التأويل وتناقل الروايات مما يمكن وضعها في سياقات متعددة تبدأ عند المصالح ولا تنتهي عند تصنيفها في سياق وجهات النظر.
بُعيد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها أطلقت الولايات المتحدة “مشروع مارشال” لإعادة إعمار أوروبا، وهي رفضت ضم الاتحاد السوفييتي إليه، على الرغم من أنه كان شريك الانتصار الذي دفع الفاتورة الأعلى في الحرب، ثم عملت، معتدة بحلفائها على الضفة الأخرى من الأطلسي، على تدمير هذا الأخير، ولم يقف الأمر عند تلك الحدود فبعد تقلص الفضاءات الروسية سعت الولايات المتحدة من جديد إلى حصار موسكو بطرق كانت تشير إلى محاولة استنساخ سيناريو العام 1991 داخل الاتحاد الروسي هذه المرة، وهي قابلت اندفاع بوريس يلتسين نحوها بكل ازدراء وبقدر كبير من التعالي.
العداء الغربي تجاه روسيا، والشرق عموماً، ليس جديداً، ومنابعه ترتبط بشبكة من العوامل التاريخية والاقتصادية والجيوسياسية، بل حتى الطائفية الدينية، ومعها، أي مع تلك الشبكة، يصبح من الصعب إيجاد تلاقيات ما بين الاثنين إلا بعد أن ترسم عوامل القوة حدودها بالنار، فالصداقة ما بين روسيا والغرب كذبة لا تدعمها دروس التاريخين القديم والمعاصر.
الغرب أثبت، وعلى مدار تاريخه، أنه لا يفهم سوى نوع وحيد من الصداقة هي صداقة الاستسلام الكامل، وهو يرى أنه لا بديل عن تحول الكل إلى كواكب تدور في فلكه إذا ما أراد هؤلاء الإبقاء على تلك “الصداقة”.