غيوم هيام ضويحي.. تهطلُ أمطاراً من الشعر والقصة والتشكيل
“أمطارٌ تحكي لي قصصاً؛
عن حارات قد زارتها
عن طيفٍ يحكي أسراراً،
عن غيمةٍ يوماً حملتها
عن طفلة تهوى الأمطار،
تركضُ، تضحكُ حين تهطل،
تقفزُ في البركة مع قطرة
اسمها وردة وتبدو كوردة..
وأنا أقرأ هذا النص؛ كنت أتخيّل صاحبته، وهي تتأمل من خلف زجاج نافذتها، ليس لأجل التأمل وهي تسرحُ بعيداً مع مشاهد هطل المطر وحسب، بل وهي تنسجُ وتُركّبُ من تلك المشاهد التي تنجدل معها بعد تأملها الطويل، ومن ثمّ لتسكبُها مرةً من خلال قصة قصيرة، وحيناً بنصٍّ شعري، وطوراً برسم لوحة.. من دون أن يعنيها التجنيس أو الأنواع الإبداعية، فهي تسكبُ كل تلك التأملات بعفوية طفلة لا تتجاوز تسع سنوات، تلميذة الصف الرابع هيام ضويحي وهي تلفت الانتباه إلى موهبتها من خلال ما تقدمه لمجلة (أسامة) التي تصدر عن وزارة الثقافة، أو من خلال ما تنشره على صفحتها الشخصية في «الفيسبوك»..
وأنا أقرأ نصوص هيام ضويحي؛ كثيراً ما رددت ما كان يُكرره بيكاسو ذات حينٍ بعيد: “أتمنى أن أدفع عمري؛ لأتوصل للحظة من اللحظات التي يرسم بها الطفل لوحاته، أو مقولته الأخرى كلُّ طفلٍ فنان، المشكلة؛ هي كيف تظلُّ فناناً عندما تكبر. ويبدو هذه الأمنية لا تزال مجال إغوائها، واشتهائها لدى الكثير من المبدعين ولاسيما التشكيليين منهم، حتى أصبحت ميلاً وسم الكثير من التجارب الفنية.. أي الملامح العفوية التي كانت سمة للكثير من النصوص والأعمال الفنية.. أقول: العفوية متجنباً قدر الإمكان مُصطلح (الفطرية)، برغم التداخل بين المُصطلحين، ذلك أن ثمة وعياً كاملاً لدى نتاج الكثير من الأطفال لما يبدعونه، وهو ما يبعده عن الفطرية التي تأتي تلقائية أو بما يُشبهها.. وضويحي في تنويعاتها الإبداعية: شعر وقصة وتشكيل واعية لكل ما تقدمة بكامل العفوية، وهو ما دفعني لأن أطلب أكثر من مرة لماذا لا يترك الأطفال يبدعون بأنفسهم في مختلف الأجناس الأدبية، والفنون، ذلك أن مستوى الإبداع لدى هؤلاء الموهوبين يوازي مستوى إبداع التلقي لأقرانهم الذين يتوجهون إليهم أيضاً، فقد أثبتت تجارب بعض الأطفال في الكتابة والرسم تفوقاً واضحاً على ما كتبه «الكبار» لهم، وبين أيدينا اليوم مثال جميل, وهو ما تقدمه هيام ضويحي، وكنت قد قرأت لغيرها أعمالاً تجاوزت كثيراً ما يُقدمه بعض الكبار للأطفال.. وهنا لنقرأ قصة هيام ضويحي التي عنونتها بـ(فرحة العطاء)، والتي غايتها مساعدة زميلاتها المُحتاجات اللواتي حكمت عليهن الظروف القاهرة بالحاجة وقلة الحيلة، لكن ضويحي سردت كل الحكاية من دون أن تتورط بـ(الوعظ)، الذي تُفعم به قصص الأطفال، وختمت قصتها بما لا يخطر على بال كاتب، فالعمل الإنساني الذي قامت به (لونا) الكريمة بمساعدة صديقتها (سارة) المُحتاجة؛ جعلها تطيرُ فرحاً، فرح جعلها تكتب من وحيه قصيدة تقولُ فيها:
“صديقتي لنتبادل الأشياء؛
هذا أمرٌ جدٌّ طبيعي
بين كلّ الأصدقاء؛
مالا يلزمك يلزمني،
ما لا يلزمني يلزمك..”
فأن يدفعك فرحك بالعمل الإنساني؛ لأن تذهب وتكتب قصيدة من وحي المناسبة، لا أظنه يخطر إلا على بال هيام ضويحي.. وحتى في قصائدها؛ ثمة حكاية ملونة مُفعمة بالمشاهد، وأمر المشاهد في نصوص الأطفال يكاد يكون سمة لكل ما يكتبون، بمعنى يكتبون صوراً ومشاهد، وهنا غير الصورة المُتعارف عليها في مجاز الشعر، هنا الصورة تأتي تركيباً تماماً كطفل يُركب قطع لوحة (البزل)، فوردة إحدى شخصيات قصيدتها:
“تلعبُ مع حبات المطر،
وتحكي قصصاً ما أحلاها:
ذات يومٍ هطلَ المطرُ،
تاهت وردة تحت الشجر
لعبت معها، ضحكت معها،
وقضت أحلى الأوقات..
راحت وردة تحكي القصة
للخالات وللعمات.
قصة فيها من الأنسنة لكلِّ الأشياء من حولها، وهي قصة شعرية، سواءً بالإيقاع الذي تصرُّ عليه لأجل موسيقا داخلية خاصة بها، أو بالمشاهد التخيلية في العلاقة مع حبات المطر، التي تنشأ بينهما علاقة غرائبية تُحيّر أقاربها بين الواقع والخرافة.. فقد ركبت ضويحي مشاهد حكايتها فيها الحدث الواضح، وفيها السرد، ومكتملة بكامل شخصياتها، وهنا الخاتمة المُدهشة..
و(سارة)، شخصية يبدو أنها مُحببة لنفس هيام ضويحي –ربما تكون رفيقتها في المدرسة- وذلك لكثرة تكرارها في أكثر من نص لديها، وفي كل الأحوال؛ تبدو الفوارق بسيطة بين شعر ضويحي وقصتها، فالنص الشعري لديها مُفعم بالحكائية، وإذا كانت مسألة الحكائية نتفهمها بولع الأطفال بالحكايات، غير أنّ (الحكائية) تكاد تُشكّل اليوم ملمحاً في ديوان الشعر السوري، والعربي بشكلٍ عام.. كما أنّها تُغرق قصصها بالكثير من المشاهد الشعرية التي تقوم بتركيبها.. فعن (مشط سارة)، وهو نص حواري يجري بين (سارة) بطلة الحكاية ومشطها الذي انكسر لكثرة الإهمال ورحل بعيداً.
نصوص هيام ضويحي مفعمة بالأشياء من حولها، حتى تكاد تُشكل قاموسها الأدبي، غير أن مفردة المطر كانت الأكثر غزارة في النص، وهو على ما يبدو له بعده النفسي والجمالي لدى الكاتبة، فيما لوحاتها تُركز من خلالها على الوجوه لطفلات صغيرات بحالات تعبيرية مُختلفة من حزن وفرح وطفولة، حتى أنها كثيراً ما تكتب نصها بجوار لوحتها، أو تقوم بالعكس؛ ترسم اللوحة بجوار النص على البياض، وهو ما يزيد في الحالة التخيلية التصويرية، التي تقوم بتأليفها وتركيبها ضمن مشهد مفعم بألوانه..