بعد تحولات القصيدة.. غاب الشاعر النجم لا أسفَ عليه!

دائماً كانت ثمة تحولات جديدة في الشعر.. جرى ذلك منذ مئتي سنة قبل الإسلام؛ عندما أجازوا للشاعر ما لم يجيزوا لغيره، ولاسيما في مسائل (الضرورة الشعرية)، وغيرها، وفي العصر العباسي كان لأبي نواس ما يُشبه الانقلاب على المقدمات الشعرية التي كانت تُدعى بـ(الطللية).. إلى أن جاء عصر قصيدة التفعيلة التي شكلّت (بُرزخاً) للانتقال لقصيدة النثر، والأخيرة التي أمست لها ألوان وأشكال كثيرة تبدأ من القصيدة العارية من المجاز، وحتى القصيدة المٌفعمة به..
وهناك من يقول إن أول المبشرين بالتحولات الجديدة في عالم الشعر العربي، هم جماعة “الرابطة القلمية” سنة 1920، والتي كان عميدها جبران خليل جبران، ومُستشارها ميخائيل نعيمة، وفي بداية الثلاثينيات، ينشر ألبير أديب، في مجلته “الأديب” مقاطع نثرية على شكل مقاطع غير مكتملة، ولا تجمعها فكرة وحدة النص العضوية الشكلية والموضوعية.. غير أن بداية تبلور الحداثة في الشعر العربي، كانت بين عامي 1947و1949 من خلال نشر نصوص لـ “فرسانها”: بدر شاكر السياب، أدونيس، بلند الحيدري، ونازك الملائكة” فقد نشر السياب “شانشيل ابنة الجلبي” في نهاية الأربعينيات، فيما نشر أدونيس في مجلة القيثارة قصائد مثل: “خريف زنبقة، العدد (4) أيلول 1946، كوخ، العدد(6) تاريخ 6 تشرين 1946، الفردوس الخيالي العدد(7) كانون الثاني 1947، وسكرة الصراع العدد(11) عام 1947″ كما نشر في جريدة الإرشاد عام 1947 أيضاً قصائد: مجابهة، وعي، نداء، مؤمن، عاصفة، هذه وتلك، صدى، سؤال، انطلاق، ابتهاج، و.. عشرات غيرها.”..
اليوم وبعد مرور كل هذه السنوات على بداية الحداثة الشعرية العربية، هل استطاعت الأجيال الشعرية الحديثة أن تتوحد في مجال الإبداع الشعري، وتحدد اتجاهاته النهائية، ومن ثم أصبحت منشغلة بإنتاج نصوص” ذات قيمة إبداعية حقيقية..”؟.. لاشك في أن العملية الشعرية بسماتها العامة انتقلت إلى أفقٍ آخر، لنقل إنه أفق المعاصرة، وتمّ في هذا المجال الوصول إلى منجزٍ شعري يحتذى به من قبل الأجيال الجديدة، ويُشكّل مُحفزاً للإبداع بالنسبة لها.. وإنه بقدر ما يكون هناك شبه اتفاق على سمات معينة، تكون لكل تجربة خصوصيتها.. ففي الشعر ليس هناك توحد ونتائج نهائية، هذا معناه الموت.. حيث كان كل مبدع يحافظ على تفرده في مجال الإبداع، وأهميته دائماً تأتي من التفرد، وليس هناك مرحلة تصبح فيها الأجيال الشعرية منشغلة بإنتاج نصوص ذات قيمة إبداعية حقيقية، ومرحلة تكون منشغلة بإبداع نصوص غير ذات قيمة.. المبدع لا يكون منشغلاً بنصوص ذات قيمة، ولو أن مرحلة من التجريب والشكلانية تكون سائدة، فهو يبدع حتى في هذه الأجواء..
غير أن الذي حصل بعد ما يُقارب القرن على انتشار القصيدة المعاصرة، أن ثمة قطيعة حصلت بين هذا النص المعاصر، و المتلقي، جاء ذلك لأكثر من سبب منها: استسهال الكتابة الشعرية لدرجة الابتذال، وذلك بعد قصيدة النثر التي تركت الكثيرين يتوهمون استطاعة كتابتها، فأغرقوا الصفحات الثقافية والمكتبات بالرداءة والجهل.. وبالنسبة للشعراء المعروفين فلا تزال كتبهم رائجة، وهذا بالتأكيد يعود لظروف انتشارهم، الذين هم في الأغلب من هم بقي من أجيال السبعينيات والثمانينيات، حيث الساحة كانت على فراغ، ومحمولة على أعمدة الإيديولوجيا، والمسألة هنا عند الشاعر الجديد، هي كيف سيصل إلى الثقة بينه وبين القارئ، وهذه أصبحت عملية طويلة ومجهدة، وتحتاج معالجات خاصة، وطرقاً أخرى للتوصيل، تحتاج إلى البحث الجدّي.. وهذا ما يبدو أن الزمن قد تجاوزه.. وهو ما أوحى لقرابة العقدين السابقين أن الشعراء أصبحوا فئة معزولة، تكتب وتنتج لذاتها ضمن زمن لولبي، يدور بذات الدائرة المغلقة كأشخاص، ينضم كل فترة لذات الزمن عابرٌ جديد وإلى ذات الفئة التي تتناحر في أغلب الأوقات لتزداد تشرذماً وتمزقاً، وضياعاً.. كما غاب في بداية هذه الألفية الشاعر القطب، الشاعر والنجم، وحدثت تقليدية ما، وكأن القصيدة وصلت إلى خواتيمها، حتى إنهم قالوها صراحةً، ومنذ أكثر من عقدين: ماذا بإمكان الشعر أن يقول، بعد أن أصبحت معانيه مكرورة ومبتذلة، وبعد أن وصلنا إلى تقليدية جديدة..؟!”.
هذا ما يُمكن اكتشافه بالمشهد العام؛ غير أنّ الحقيقة المدهشة تجلت خلال العقد الأخير من السنين، خلال الحرب على سورية، فلدى القصيدة كان ثمة الكثير لتقوله، وهي قالت الكثير، ولا أسف على غياب (الشاعر النجم).. وربما من حسن حظ الشعر غيابه، وتجاوزت المكرور، وخلقت بُنىً ومضامين جديدة.. وللحديث بقية..