المتنبي والإنسان المتعالي

تشكل حياة المتنبي حالة جذب لما فيها من ألغاز تتوالد أمام القارئ المهتم، والمتنبي ليس مجرد شاعر قديم من القرن الرابع الهجري، فهو مع امرئ القيس قبله ومع آخرين يشكل قاعدة بناء التقليد الشعري العربي لا يمكن فكّ الارتباط معهم لما لهم من حضور في شعرنا المعاصر، إنهم بمنزلة النسغ في الشجر والنبات، إنهم قاعدة التأسيس ولذلك لا تستنفذ الوقفات والدراسات التأويلية لهذه الشخصية وهذه التجربة، ومن الدراسات العميقة لهذه الشخصية، على كثرتها، تبرز أمامنا دراسة أديبنا الراحل صدقي إسماعيل.. وأزعم أنها أهم ما كتب عن المتنبي في عصرنا الحديث.

يرى صدقي إسماعيل أن المتنبي في شعره كان يرنو إلى عالم جديد، عالم يقوده الأحرار الذين يتمتعون بالشجاعة والعنفوان، وأن يكون الإحساس بالقوة سجية من سجاياهم. وهو بهذا سبق نيتشه في نشدانه للإنسان القوي بديلاً عن الاتطاع والوضاعة والضعف.
الشعر عند المتنبي، كما عند الجاهليين، حاسة وفعل جمال وحياة، أي تجربة وانغماس في التجربة، كما ينظر الحداثيون للشعر، وقصة الشاعر، أي شاعر كبير، تبدأ وتنتهي بتجربة حياته.
كان المتنبي يرى أن عليه أن يعيش من دون استقرار، في مماحكة دائمة مع المخاطر، وهذا من طباع الأقوياء ذوي الهمم العالية، وعبر عن ذلك في شعره، وهذا نابع من الرغبة في ممارسة القوة ضد التقاعس والكسل والزهد. المتنبي ضد الزهد كطريقة حياة، وضد رفض الحياة، بل استجابة مستمرة لا تتعب ولا تكل، لذلك نراه كثير الأسفار والتنقل : “على قلق، كأن الريح تحتي..”. إنه حالة عنفوان، يُسخّر كلَّ شيء من أجل أن يكون قوياً حاراً متهكماً. كان المتنبي من الأقوياء، استخدم كل أسلحته من أجل الحياة، حلم بالإنسان الجديد ( القوي) الذي يتمتع بإرادة القوة وقد سبق بذلك نيتشه وشبنهاور بثمانية قرون تقريباً.
ينفي صدقي إسماعيل الاعتقاد الشائع بأن يكون المال عند شاعرنا هدفاً بحد ذاته، على الرغم من نشأته الفقيرة التي يعزو إليها ما يقال عن بخله وحرصه، ويرى إسماعيل أن حرصه ربما يتأتى من شعوره بأن للمال أهمية من أجل العيش بكرامة، من جهة، ولكونه كان يعدُّ نفسه للملك، ويحتاج المال لخدمة مشروعه السياسي الإصلاحي، ولو كان المال والترف هدفاً، لكان هدأ واستقر بعد أن كسب مالاً كثيراً، ولعاش بما كسب متنعماً طوال حياته. ولكنه كان ضد الاستقرار، يسعى لكي يحيا الحياة بكل توهجها واندفاعها.
في شعر المتنبي دعوات متكررة للتمرد على أسلوب الحياة العادي، فالإنسان في نظره خلق لأمر عظيم، والإبداع هو تأجج وانفعال.. ويرى إسماعيل؛ كان يتنازع المتنبي شعوران متناقضان يتصارعان في نفسه لا يتركانه يهدأ، هما الشعور بالعظمة، والشعور بالهوان، وهو بين هذين الحالين في توتر دائم، يعبر عن نفس قوية لا ترى العالم إلا في أرحب مدى. والقلق والشعور بالألم مشروعان من أجل تغذية العظمة والنفور من العادي ومألوف.
قارئ المتنبي مع صدقي إسماعيل يكتشف أن عدو الشاعر الأول هو الزمن والأيام والدهر والقدر، يسميها المتنبي ” مقارعة الخطوب”.
لم يكن المتنبي فيلسوفاً ولكنه كان قارئ فلسفة، وكان على جانب من المعرفة الفلسفية.. الإنسان الأهم عنده هو الإنسان المتعالي.. ولهذا يمكننا القول إن المتنبي مثله مثل شكسبير، شاعر متجدد ومعاصر.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار