عن الكتابة في المنطقة العازلة بين السرد والشعر

ربما ينظرُ الكثيرون اليوم، شزراً، لما يتم من خلاله إلغاء الحدود بين الأنواع الأدبية، فلا القصيدة هي قصيدة صرف، ولا القصة بقيت قصة خالصة تماماً.. ناهيك بالروايات اليوم المُفعمة بالشعرية.

أذكر القصة والقصيدة، وذلك لأنهما أكثر نوعين يكادان يتماهيان معاً لدرجة أنّني نَحتُّ يوماً -منذ عشرين سنة على الأقل- مُصطلح «الأقصودة» وهو أكثر ما يُمكن أن يلبس جسد ما اتفق على تسميته منذ تسعينيات القرن الماضي بـ«القصة القصيرة جداً» نظراً للشعرية العالية فيها، وقد يظن اليوم أن شبه إلغاء الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية يختصُّ فقط بأنواع الأدب الوجيز التي بالكاد يستطيع المُتلقي ولاسيما مع الاشتراك بالكثير من الملامح والقواعد في النص أن يُميز القصة القصيرة جداً عن الومضة، وحتى عن الأنواع التي دخلت بمسميات أجنبية كما في بلدانها الأصلية كالهايكو والهايبون والتانغا وغيرها.
غير أنّ المُتابع لمدونة الأدب العربي بمختلف أجناسه وأنواعه سيجد الكثير مثل هذا التماهي بين الأجناس الأدبية، وهو ما تنبه إليه النقاد مُبكراً من دراسات تمت تحت مُصطلح «الكتابة عبر النوعية»، التي تعني فيما تعنيه الهاجس لدى بعض الكتّاب لتغييب “نوع” الجنس الإبداعي في النص الذي يكتبونه، وهو ما يُشير إليه غلاف ما يصدرونه من كتب من إهمال أو إسقاط اسم النوع الإبداعي.. للتذكير فقط فإنّ الكثير من الملاحم التي هي أشبه بالرواية كُتبت شعراً.
وفي نظرة استرجاعية للتراث العربي نجده يمتلئ بالنصوص والكتابات التي تمزج الشعري بالنثري، إذ نرى القص والخطاب يمتزجان بالشعر ضمن البنى البلاغية والبيانية للنصوص القديمة مثل “كليلة ودمنة” -على سبيل المثال- وحكايات نظمت شعراً في سبيل قيم أخلاقية معينة، لا يوجد القص في نصوص التراث القديمة فحسب، بل يظهر أيضاً في أصل الشعر وبداياته الفطرية الأولى، وخصوصاً الأساطير وغيرها من الأناشيد الشعرية القديمة.. وهذا يُحيل إلى عدم وجود أي قطيعة مطلقة بين الشعري والنثري، فقد كان هناك دائماً مجال لأن يُنسجا علاقات صداقة وطيدة ويتوطد أحدهما مع الآخر، ففي الشعر العمودي -على سبيل المثال- كان من الصعب إدخال النثر أو هو كان عصياً على ذلك، بسبب نظام العروض الدقيق واستخدام الشطرين وغير ذلك من القوانين، إلا في حالات نادرة وقليلة غير أن النص الشعري أو القصيدة كانت تُفعم بالحكايات من هجر ورثاء ومديح وغزل. بدورهم شعراء التفعيلة أدخلوا القص والنثر في خطابهم الشعري، وإن كان بشيءٍ من التردد وبنسب متفاوتة، من دون أن يُشكل ذلك خطاً عريضاً وعاماً في تاريخية شعر التفعيلة، لكن الانقلاب الأكبر الذي حصل في هذا المجال جاء على أيدي شعراء قصيدة النثر الذين كانوا وما زالوا أكثر جرأة وإقداماً على المغامرة والتجريب، رغم أن ذلك لم يتبلور عملياً إلا في نتاجات جيل التسعينيات وفيما بعد إلى اليوم.. هذه النقلة الأسلوبية لم تأتِ عفو الخاطر بحركة دراماتيكية، بل تبدت كإحدى نتائج التطور الداخلي للشعرية العربية التي كان عليها أن تجد متنفساً جديداً تخرج به من أطر التقليد للشعر المترجم.. هذا من جهة، ولشيوع نظريات إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية، وتأثيرات الشعر الأنغلوسكسوني والأمريكي من جهة أخرى، ما أدى إلى خلخلة الخصائص الداخلية المعهودة للشعر.
يرى الكثير من النقاد أن هذه التجربة تنطوي على مجازفة كبيرة، فكتابة نص في المنطقة العازلة بين السرد والشعر أمر ليس يسيراً، ذلك أن السيولة اللفظية التي نجدها في نصوصهم تتناقض مع الترهل اللفظي والتقريرية، ورغم أن لغتهم تأخذ كثيراً من الوصف، إلا أنها لا تقع في حطامه.. هنا يأتي التركيز على الحوار والحدث والعمل بجدّ على إبراز الزمان وتقاطعاته المكانية وكذلك الزمان وتقاطعاته المكانية والشخصيات، والاستفادة من تقنيات المسرح والسينما، حيث يترافق كل ذلك مع استخدام السخرية والطرافة، والدوران اللغوي، والالتفاف بين الضمائر ليُساهم كلُّ ذلك في بلورة الجانب النثري في القصيدة، أو لنقل بطريقة أخرى ساهم في استعارة الشعر للسرد والاستفادة من إمكاناته القوية في القص، وهذه «الاستعارة» لم تحوّل القصيدة إلى أقصوصة أو حكاية، بل ظلت تنضوي تحت لافتة الشعر رغم تواطئها مع هذه الأجناس، بل إن هذه «الاستعارة» للسرد في الشعر – يراها بعض النقاد – واحداً من أسبابٍ كثيرة أنقذت قصيدة النثر من الوقوع في فخ النمطية، أو منعها من أن تصل إلى مرافئها الأخيرة كما حدث مع أنواع إبداعية كثيرة!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار