خطوات سوريّة

“خطوة مقابل خطوة”، أصبحت هذه الجملة في الآونة الأخيرة العنوان الأساسي لمعظم المقاربات السياسية الغربية والعربية المقترحة لحل الأزمة السورية، فمنذ انطلاق هذه الفكرة نهاية عام 2020 عبر مراكز الأبحاث الأميركية والغربية بدأت الجوقات السياسية التي تدور في فلك السياسة الأميركية بترديد هذه العبارة بوتيرة متزايدة، وجزء كبير منهم لا يدرك خطورة هذه العبارة، وما تحمله من خفايا، فهي رغم ما تبدو عليه من بساطة وسهولة إلا أنها تحمل في طياتها معاني وأهدافاً كثيرة، فبدايةً يسعى الحلف المعادي لسورية من خلال الترويج لمفهوم “خطوة مقابل خطوة” لوضع الدولة السورية تحت ضغط الواقع الاقتصادي الصعب الذي تمر به البلاد من خلال تحييد نظر الشعب السوري عن الأسباب الحقيقية لتأزّم الوضع الاقتصادي في سورية، والمتمثلة بالإجراءات القسرية أحادية الجانب المتخذة ضد سورية، وباستمرار احتلال أجزاء كبيرة من أراضيها ونهب خيراتها من الاحتلال الأميركي وعملائه، واستبدالها بالحجج الواهية المتمثلة بعدم قيام الدولة السورية بالخطوات المطلوبة منها لفك هذا الحصار، وبأن كل خطوة تقوم بها دمشق سيرافقها انفراج في الوضع الاقتصادي، وهم من خلال هذه العملية يسعون للتأثير على الداخل السوري لخلق حالة من الاحتقان والمواجهة بين الشعب والحكومة، والتسبب بحالة من الشرخ داخل المجتمع السوري، وهذا ما يتطلب فهماً عميقاً وواعياً من المجتمع السوري لخطورة هذه المبادرة، وأهدافها البعيدة من خلال تشريح موضوعي لمضامينها، وهنا يجب أن ننتقل للنقطة الأساسية الثانية وهي: ما المقصود بخطوة مقابل خطوة؟ وما الخطوات السورية المطلوبة؟ وما المسار المرسوم لتلك الخطوات؟ وما نهايته؟
إن بوصلة السياسة الأميركية في منطقتنا واضحة، وهي أمن ومصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وكل ما تقوم به الإدارة الأميركية يصبّ في هذا الهدف، وهي من غير الممكن أن تُقدّم في أي يومٍ من الأيام خطوةً إيجابية لنهضة هذه البلاد، ومن خلال متابعة المشهد العام للممارسات الأميركية في المنطقة يمكننا أن نؤكد أن المسار الذي تنتهجه الولايات المتحدة الأميركية يتوافق إلى نحو كبير مع المخططات الأميركية التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي، والتي كان أبرزها ما قدّمه برنارد لويس عام 1983 من خلال دراسة نشرت في مجلة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) يقترح فيها إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، وإعادة احتلال المنطقة على أن تكون المهمة المعلنة هي تدريب شعوبها على الحياة الديمقراطية، والعمل على استثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية، وكانت الخطوة الجديّة الأولى في تنفيذ هذا المشروع هي غزو العراق والعمل على تقسيمه، وهنا يجب أن نستذكر موقف الرئيس الأميركي الحالي “جو بايدن” من هذا المشروع حيث إنّه طرح في العام 2007 عندما كان يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مشروعاً لتقسيم العراق إلى 3 دول -كانتونات- على أساس قومي وطائفي، وتم التصويت والموافقة عليه من الكونغرس واعتماده كقرار غير ملزم، كما أن “بايدن” خلال حملته الانتخابية للرئاسة الأميركية عام 2008 ركّز على أن تحقيق نجاح سياسي في حرب العراق يكون من خلال التحول إلى “نظام الفيدرالية”، وهذا يؤكد أن سياسة “بايدن” في المنطقة قائمة على فكرة التقسيم الناعم، فبعد الحرب على العراق كانت الأداة الرئيسية التي استخدمها الأميركيون لترسيخ تقسيم العراق هي “الدستور” العراقي الجديد الذي كتب عام 2005 تحت إشراف الأميركيين وبأقلامهم، حيث نجحت يومها الولايات المتحدة بإخراج دستور عراقي يحوي في طياته بذرة التقسيم، وعلى عقبات تمنع تشكّل بلدٍ قوي مستقل يمتلك خيراته وينعم شعبه بها، وحاضر العراق الذي نعاينه بأنظارنا يثبت حقيقة ذك المشروع، وينبّه لخطورة المشاريع الأميركية على دول المنطقة، ويؤكد أنه ليس من السهل التخلّص من الندوب التي رسمها الأميركيون في الجسد العراقي على الرغم من المحاولات المتكررة من إخواننا في العراق لاستعادة السيطرة على بلدهم ومقدراتهم واستقلالية قرارهم، وهنا ندرك سبب وضع مسار اللجنة الدستورية في رأس قائمة الخطوات المطلوبة من الدولة السورية، فهم يريدون من سورية تقديم تنازلات في لجنة صياغة الدستور لكي يستطيعوا تمرير غاياتهم، وأجنداتهم الهادفة لتقسيم سورية على المدى الطويل، لذلك يجب أن يكون جليّاً للجميع بأن أي تنازلٍ على هذا الصعيد سيفضي في النهاية إلى سورية مقسمة، وعلى صعيد الحياة السياسية، فإن الخطوة الجوهرية التي يضغط الحلف المعادي لسورية لتحقيقها هي فرض مشاركة تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي، وعدد من الشخصيات العميلة للخارج في الحياة السياسية، وفي السلطة في سورية، وهذه الخطوة لا تعتبر أقل خطورة من مسار اللجنة الدستورية، فالشعب السوري بكافة أطيافه وشرائحه عانى كثيراً ولسنوات من إرهاب هذا التنظيم وعمالته وارتهانه للخارج، ويضاف إلى ذلك جميع التجارب السياسية لهذا التنظيم في الدول العربية المجاورة، حيث كان تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي ينخر في جسد تلك الدول كالسرطان حتى يفتك بها، ويحكم قبضته عليها، ولم يكن لديه أي مشكلة بالتعامل مع أي قوة خارجية في سبيل الوصول إلى السلطة على حساب أبناء شعبه، وشركائه في الوطن، هذا السرطان الذي حاول مراراً وتكراراً أن يلج إلى الجسد السوري، ولكن في كل مرة كان الشعب والجيش يقفان كالبنيان المرصوص أمامه، وحرص القيادة في سورية على دماء شهدائها، وجراح أبطالها التي لم تشف بعد، وخوفها على مستقبل البلاد جعلت من هذه الخطوة التي يبتغيها الحلف المعادي لسورية مستحيلة التنفيذ، وفي سياق متصل تأتي الخطوة المطلوبة التالية وهي التدخل في بنية الجيش والأجهزة الأمنية، فذلك الجيش الأسطوري الذي نجح بالتصدي للحرب الكونية الهمجية التي شنّت على سورية عبر مئات آلاف الإرهابيين الذين توافدوا من نحو 93 دولة على مستوى العالم، أصبح يشكل بصموده وعقيدته ووطنيته معضلة وعقدة لدى دول العدوان، وأصبح حلم تدمير هذا الجيش هاجساً لديهم يسعون لتحقيقه، لأنّهم أيقنوا أنّه بوجود جيش وطني كهذا لن يستطيعوا مطلقاً تحقيق أحلامهم بتقسيم سورية.
تلك الخطوات المطلوبة وغيرها تصبّ في هدف واحد وهو الوصول إلى تقسيم البلاد، وسلب قرارها الوطني، والمسار الذي يدفعوننا للسير عليه نهايته مظلمة، وكل خطوة نخطوها اليوم سنرى أثرها لاحقاً، فمستقبل سورية يكتب اليوم، وهذا يتطلب وعياً جماهيرياً ووطنياً استثنائياً لأنّ سورية تمرّ بلحظة تاريخية مفصليّة، والخطر المحدق بها وبأبنائها كبير جداً، وهذا يتطلب خطوات صعبة ومؤلمة، ومهما يكن الثمن الّذي ندفعه اليوم مقابل خطواتنا الحرّة المستقلة، فهو أقل بكثير من الثمن الذي سيدفعه أبناء وطننا مستقبلاً في حال مشينا في مسار الخطوات الذي يرسمونه لنا، فتلك الخطوات الصعبة سوف تأسس لبلد قويّ، مستقل، موحد، يحافظ على كرامة أبنائه، والقيادة التي استطاعت العبور بشعبها إلى شاطئ الأمان بعد إحدى عشرة سنة من الحرب العالمية على بلدها بالتأكيد ستخطو بخطوات سورية وطنية واثقة على المسار الذي يضمن مستقبلاً متقدماً ومزدهراً لسورية وشعبها، وسيشكل هذا المسار، كما شكل الانتصار في الحرب منارةً لكل أحرار المنطقة والعالم.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار