من المؤكد، أنَّ كلَّ إنسان يعاني بشكل أو بآخر، وبنسب متفاوتة جداً. ولا ينجو إنسان من المواجهة مع المتاعب أو الشدائد أو من الاشتباك مع الزمن، ويحاول البعض أن يجدوا ما يخفف عنهم وطأة المعاناة. إن صناعة السعادة من أصعب الصناعات السيكولوجية، فالإنسان حتى ولو كان في ذروة سعادته، إلا أنَّه سرعان ما يواجه حقيقة أنَّ الموت يترصده، ولا مفرَّ من مواجهة المصير، وهذا ما أدركه أبو نواس، حين قال:
“ألا كلُّ حيٍّ هالك وابن هالكٍ وذو نسبٍ بالهالكين عريقِ”
ولكن، أيضاً إمكانية التخفيف من المعاناة أمر ممكن على المستوى الفردي وعلى المستوى الجمعي؛ على المستوى الاجتماعي العام، ظل هاجس السعادة يشكل حلماً تسعى البشرية إلى تحقيقه منذ أن انتظمت في مجتمعات كبيرة، وأظهرت ذلك على لسان شعرائها وفلاسفتها ومصلحيها، ويوجد شبه اتفاق أن الأمر يحتاج أن تتحقق العدالة الاجتماعية، ولكن هذه العدالة المنشودة لم تتحقق لأسباب كثيرة، ولا تزال البشرية تصبو وتسعى لتحقيق العدالة، واليوم يبدو الوضع البشري في كارثة كبرى وفي حالة استعصاء وانسداد، وينتج عن ذلك يأس مطبق وجنوح عدواني واضطراب وفوضى شاملة، وعلى الرغم من صرخات التنبيه، إلا أن الذين يتحكمون بإدارة العالم صمّوا آذانهم، وأفلتوا الجنون والطمع والعدوانية حتى ارتفعت إلى حدودها القصوى!
المفكر وعالم النفس “أريك فروم” واحد ممن انشغلوا بكيفية إنقاذ الإنسان من كارثة سيكيولوجية واقتصادية منذ منتصف القرن الماضي، وله كتب عديدة، منها: “الهروب من الحرية” و “تشريح العدوانية” و “الإنسان بين المظهر والجوهر” قدم فروم تصوراً يهدف منه إلى تغيير واقع الإنسان، يحدد ذلك بأربعة شروط:
-الوعي بالمعاناة، أي أن ندرك ونعترف بأننا نعاني.
-الكشف عن الأصل في الحالة السيئة التي من أجلها نعاني
-أن نتبين أن ثمة مخرجاً..
-أن نقبل فكرة أنه لكي نتجاوز الحالة يجب أن نغير طريقتنا في العيش، وممارساتنا الحياتية.
يقول فروم إنه استخلص هذه النتائج من تعاليم بوذا، ويقول إن هذه التعاليم من البساطة لدرجة أنها تكاد تفقد أهميتها، وعلى بساطة هذه الشروط التي يقدمها فروم، لو تأملنا فيها لأدركنا عمقها، فهي تأتي من مفكر نقدي كبير، إنساني النزعة، عاش حياته شديد الالتصاق بإنسانية الإنسان، ناقداً نزيهاً لـ”فرويد” وظل طوال حياته يقرع أجراس الإنذار، محذراً من الكارثة التي تعيشها البشرية في كل مكان على المستوى الكوني، وكان هدف فروم دائماً إصلاح حالة الإنسان، ومزج بين الماركسية والتحليل النفسي الاجتماعي وفق الشروط الأربعة التي حددها، وتميز خطابه بالوضوح، خلافاً لأقرانه من جماعة التحليل النفسي، ثم جماعة مدرسة فرانكفورت النقدية، دعا فروم لإنسان الجوهر الممتلئ بإنسانيته عكس إنسان التملك والاستهلاك والاغتراب التي تفرزها ثقافة الرأسمالية.
الإنسان الذي يرومه فروم، هو إنسان جديد متحرر من الخرافة ومن الأنانية والعدوانية، إنسان يعي إنسانيته على أنها قيمة كبرى، لا يجوز تبخيسها أو الانتقاص منها، إنسان يعي موقعه في الزمان والمكان. والوعي شرط أساسي للتغيير الفردي والجمعي، وبالتالي فإن الثقافة تفرض نفسها كضرورة ملحة لتنمية الوعي وتحصينه. ومن الشروط التي وضعها فروم، أرى أن الشرط الثالث له كبير الأهمية بالنسبة لنا لأنه يحثنا على الأمل وعلى الثقة بالنفس وضرورة النظرة النقدية للذات وللتاريخ وللعالم من حولنا.