عبير سليمان ترصدُ أربعة إبحارات لـ«ركّاب الزوارق الورقية»!

“أهلنا الذين أغواهم البحر؛
مضوا دون تلويحة..
كانت وجوهنا المذعورة،
رياحاً تدفعهم أبعد..
فيما منظر أجسامهم المبللة يبقينا في البلاد،
نذكر أنهم غرقوا بشكلٍ يُشبه النجاة..
ويذكرون أننا نجونا بشكلٍ يشبه الغرق!”

وكأنها تكتبُ الشعر بما يُشبه عملية صيد، كأنها تنصبُ فخاً للقصيدة، أو ربما شباكاً، ثم تمضي إلى أشغالها اليومية، وفجأة تتذكر أنها كانت قد نصبت «كميناً» للقصيدة، فتعودُ إليها لتُعيدَ صياغتها من جديد.. هكذا أنجزت عبير سليمان أولى مجموعاتها الشعرية «رسالة من بيدق ميّت»2014- دار الرّوسم- بغداد، ثم تتبعه بـ«ونُفخَ في الناي» 2017– دار بعل – دمشق»، وعلى حد علمي أصدرت بعد ذلك أكثر من مجموعةٍ في غير عاصمةٍ عربية، وبين يدينا اليوم مجموعتها «ركّاب الزوارق الورقية» الصادر عن دار بعل في دمشق.
وفي قراءة تواريخ الصدور للمجموعات السابق ذكرها؛ فإنّ نتاج الشاعرة عبير سليمان؛ كان كله خلال الوجع السوري والحرب على سورية، ومن هنا كان لقولها الشعري: هذه الغلالة النبيلة من الحزن التي تلف النص الشعري كلفافةٍ طفلٍ وليد بيضاء ، وقد سبق أن ذكرت أن الشاعرة تكتب القصيدة، أشبه بصيّاد، وذلك بما أعرفه عن عبير سليمان انجدال حياتها بالهمّ السوري حتى آخر (عضّة برد) لقدمي طفلٍ أو طفلة، إضافةً لشغلها كمهندسة في إحدى المؤسسات.
وكان (ركّاب الزوارق الورقية) لتوحي لنا سليمان من خلال نصوصه (هشاشة) كل شيء.. هشاشة تصل حدَّ الكذبة المروَّعة.
عبير سليمان وتأشيرة الغوص في بحر الإبداع، ووجع الأوطان، بهذه الكلمات العذبة بوضوحها، والغارقة في تناقضاتها المؤلمة؛ تستهلُّ (ركّاب الزوارق الورقية)، وذلك بأربع جولاتٍ مُتناقضة؛ أبحرت بنا في خبايا النفس بين شكٍّ ويقين، بين خوف ولامبالاة، بين حبٍّ مدججٍ بالخيبات ووطنٍ تتناهشه الذئاب من مختلف أطرافه، بين خرائب الحرب وزوارق الرحيل، واستنساخ الجمال من الطبيعة والفكرة والرؤية.. ثمّ لتدعنا نتوه بين حروفها في جولة يقينها، إذ تضعنا وجهاً لوجه أمام خريطة وجود أزلية تبحرُ مجاديف سفنها نحو العدم عن عريِّ مدججٍ بالأسمال، وعن سوأة إخفاء خطايا التاريخ بورق توت المجاز.. وتقررُ على حين حب؛ أن تغني للطفل النائم على الرصيف الآن حتى لو أصبح قاتلاً أو قتيلاً.. وفي بحرها الميّت الخالي من ملح العيش الكريم؛ تعلن ثورة نوارسها الهائمة على شطآنه.
تقول: «أريدك» فيما طيارتكَ تقلعُ نحو السماء، أقول:«أريدك» فيما سفينتي تبحرُ نحو المحيط
ونرسم إحداثيات عناقنا الوشيك
على خريطةٍ جائعةٍ:
تبتلع السفن والطائرات التائهة
وأمام جولة شكّها الموغلة بالتيه تارةً، والضياع تارات؛ تستوقفنا باستعاراتها وانزياحات معانيها، لتصير البلاغة في ديدن قصيدتها رصاصة واحدة في الجبين..
سئمتُ كلَّ هذا اللغو،
أيتها البنادق الركيكة؛
البلاغة:
رصاصةٌ واحدة في الجبين.
وأمام عواصف الفقد تمطرُ علينا بعبارات الفراغ والضياع الناضحة من عمق الفكرة.. وهي تُثيرُ الشجون في جولة شكّها، وتُغيّر وجه تلك الطبيعة المستشرسة، إذ كانت (امرأة مختلفة) حدَّ النشيج والابتسامة.. حدَّ التغيير الجذري لكلّ ما هو مألوف، لتقلب معايير الفكرة، وتتصالح مع ذاتها بعيداً عن العراكات الدامية مع النفس والأشياء والحبيب..

“أنت كلُّ الراحلين،
والمفقودين والغائبين،
وأنا
كلُّ تلك البيوت الخاوية,”
وبتغريبةٍ وثائقية عزفُها حزين، كان لنا مع الوجع وقفة.. حدثتنا الشاعرة عن (القتلة على الحدود) أولئك الذين تخالهم لا آباء لهم ولا أمهات، كأنهم سقطوا من أرحام المنايا جياعاً للدم أصحاب الجراح والأوجاع وعشاق الموت.. وفي جولة الخوف كان للشاعرة رصيدُ شعرٍ متناسلٌ من الظل، ووحوش الجبال، وشوك الهواجس؛ موزعٌ بين أصابع الأمهات على البدلات المموهة وأصابع أخرى في المقلب الموجوع.. أمام كل تلك الجولات الفارهة الأنين المتغلغلة في النفس البشرية، وليس ثمة ضربة قاضية، تعلنُ فيها انتصار أيّ من مصارعيها، في مكاشفةٍ مع الحياة التي لم تكن صديقتها ولا عدوتها تماماً..
وأخيراً تستهلُّ آخر جولاتها بعنونة مميزة (لم نكن تماماً عدوتين) إذ تسربل اليأس من كل (الأنوات)، ومن ثمّ لتختم الشاعرة جولاتها الثلاث باللامبالاة وانتشار العبثية البلهاء على وقع عناوين صارخة من قبيل: آل البهجة، لستُ ضميرك، بما تحلمُ الطيور، لا بأس بالغبار، قلب كصابون غار لبلدي، و.. غيرها.
“الشرشفُ الأبيضُ
الذي ظلَّ منشوراً على سطحِ البيت المهجور؛
شربَ أشعة الشمس،
وطارَ مُهفهفاً كما يُفترضُ
بنسيجٍ نظيف،
شرب دُخان السيجارة
التي أشعلتها الحربُ عندَ مدخل الحيّ..
شرب صُراخَ الأطفال
قبل أن يُغادروا المكان مذعورين،
شرب الرياح التي صارت تهبُّ مستوحشة،
شرب ثقوب الرصاصات الراكضة بين الشمال والجنوب،
وشرب المطرَ الذي
هطلَ غزيراً على المدينة قبل أيام..”
ومع كل هذا وذاك، وبرغم كل هذا المد الحزين من الخيبة والفقد والخذلان؛ مع ذلك ثمة دافعٌ للعيش والحياة، دافع لو توفر، أو قل لو عرفنا كيف نستثمره؛ لما كان كلّ هذا الخراب.. هذا الدافع الذي تسدلُ به نصوصها كستار في ختام مسرحية من نوع (تراجوكوميديا)، إنه دافعُ الحب خيرُ من يجعل هذه الحياة قابلة للعيش..
“ثمة مليار رجل في العالم؛
(…)
وثمة أنت واحدٌ فقط يعادلُ الجميع؛
لهذا أحبك..”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار