المسرحي “فرحان بلبل” وخفايا العرض المسرحي
مقالات الكتاب الجديد «أبحاث في المسرح العربي»، الصادر حديثاً عن اتحاد الكتّاب العرب في دمشق، للمسرحي فرحان بلبل كان القصد من بعضها، كما يقول في مقدمة كتابه، التنبيه إلى بعض ما ينوء به المسرح العربي من اضطراب في مختلف جوانبه، فالنص المسرحي في رأيه اعتراه الخلل بعدما انحسر وجوده عن كثير من العروض المسرحية ما جعله يخسر ألقه وشموخه اللذين كانا له في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، واللذين جعلاه يحتل مرتبة عالية في التأليف المسرحي في العالم، ولهذا جاء الكتاب في ثلاثة أقسام، أولها: جوانب في تأليف النص المسرحي, وثانيها: جوانب في النقد المسرحي، وثالثها: جوانب في العرض المسرحي, وفي هذه الأقسام حاول المؤلف بلبل الدخول، وفق قوله، إلى خفاياها التي يعانيها المسرحيون وجمهورهم، وهذه الخفايا قد لا يستطيع التغلغل إليها إلاّ رجل عارك المسرح وعاركه المسرح مدة خمسين عاماً في سورية وفي عديد من الأقطار العربي, فأصاب الرأي فيما قال وفعل مرات، وأخطأه الرأي فيما قال وفعل مرات ومرات، فتعلّم من الخطأ وعلّم الصواب. وكانت هذه الأبحاث التي سنشير بمقتطفاتٍ إلى بعضها، بعضُ حصيلة الصواب والتعلم من الخطأ.
ولإبقاء المتعة بالقراءة لدى القارئ فقد لجأ المؤلف – كما يقول- إلى عدة أشكال لعرض أفكاره، فمنها شكل البحث النظري العادي الصارم الذي تؤدي مقدماته إلى نتائجه، ومنها شكل الذكريات المسرحية الشخصية التي تحمل أبلغ الدلالات على الفكرة المعروضة، ومنها الشكل القصصي الذي لا يلبث أن ينتقل من إدهاش القَصِّ إلى إدهاش الفكرة.
وقد رأى المؤلف بلبل في مدخل القسم الأول«جوانب في تأليف النص المسرحي» أن العودة إلى تقديم النصوص المسرحية القوية ذات الحكاية الشائقة والمضمون الإنساني العميق هي الخطوة الأولى في سبيل استعادة المسرح مكانته السابقة ووقوفه بجدارة بين زحمة وسائل الاتصال المرعبة في قدرتها على سرقة الجمهور منه, أما الخطوة الثانية فهي الاعتماد على الممثل القادر على تقديم المشاعر الإنسانية بحرارة تتواصل مع المتفرج الجالس في الصالة بحيث تخلق من الناس المختلفي الأذواق والاتجاهات والأفكار كتلة واحدة يصهرها العرض المسرحي مدة العرض في بوتقة حارة, ثم يذهب كل منهم إلى بيته وقد اصطحب ما رآه وسمعه على خشبة المسرح. وسوف يكتشف أن هذه المتعة الخاصة بالمسرح لاشيء يوازيها أو يشبهها أو يحلّ محلها. والمؤلف لأجل ذلك ينبّه إلى أن الخصائص العامة للتأليف المسرحي هي في تنبّه الكتّاب إلى أن أركان الدراما هي ذاتها برغم كل اختلافات المدارس والاتجاهات، فالحبكة والصراع والشخصية والتسلسل المنطقي للأحداث وإدارة الحوار بما يناسب الشخصية والموقف والموضوع هي الأركان التي لا يكون النص مسرحياً إلاّ بها.
وتحت عنوان«صورة المرأة في المسرح العربي» رأى المؤلف بلبل أن المرأة لا تزال في المسرح غير فاعلة في الفعل الاجتماعي والسياسي ويمكن للكاتب المسرحي أن يبرز دوراً جديداً فاعلاً للمرأة، لكن شرط امتلاكه الوعي، هذا الوعي للأسف تناقص عند المسرحيين بعد أن انحسر عن حرية المجتمع وحرية الوطن وكرامته، وبعد أن اتُهِمت كل دعوة إلى تحرير المجتمع من الاستغلال بأنها (إيديولوجية) يجب أن يتخلص المسرح منها, والدليل على ذلك أن أي مسرحية يأتي فيها ذكر لقضية وطنية أو اجتماعية ذات وجه صدامي، فسوف ينصبُّ عليها الاتهام العنيف بالمباشرة وبالخروج عن (الفنية), وكلما غامت العروض المسرحية في شكلانية اللعب العاطفي بحجة الإبهار البصري، نالت من التأييد والدعم والتقريظ ما يجعل المسرح العربي يخسر الدفاع عن حرية الرجل والمرأة معاً.
وفي فصل «المونودراما بيت مغلق أمام أنصاف الموهوبين» بسط لنا بلبل سبعة أركان لكتابة “المونودراما”، الركن الأول في نظره أن يكون مفتاح الولوج إلى “المونودراما” وجود دافع قوي خطير يُجبِر الشخصية على الكلام، ويقنع المتفرج بأنه ليس أمام الشخصية التي أمامه إلا أن تتكلم بصوت مرتفع, وقد وضع هذا الركن بعد أن افتقد بلبل في الكثير من «المونودرامات» التي قرأها أو شاهدها الدافع القوي الذي يسوّغ للشخصية أن تبوح بمكنونات صدرها. ثانياً على «المونودراما» أن تقدّم حكاية يمكن تلخيصها بعد قراءة النص أو مشاهدة العرض, شأنها في ذلك شأن أي نص مسرحي على أن تكون حكاية غريبة مدهشة استثنائية، لأن الغرابة والاستثنائية في الحكاية تتيحان أن يتعلق المتفرج بالعرض المسرحي وأن يستخلص العبرة والمغزى اللذين يقصد إليهما الكاتب والمخرج في النص والعرض المسرحيين, ويرى بلبل في الصراع ركناً ثالثاً وأن يكون هذا الصراع ضارياً قاسياً ليلقي الشخصية في صحراء مهلكة تدفعها إلى النقطة التي لم تجد أمامها إلا أن تبوح بمكنوناتها على ذلك الشكل المستدعي لمزيج التداعي والسرد والقصة, أمّا الركن الأخير والأصعب في كتابة “المونودراما” حسب قول بلبل، فهو أن تكون جميلة وممتعة في القراءة قبل أن تقف على خشبة المسرح، وأن تجعل القارئ يتلهف لمتابعة أحداثها تماماً كما يحدث معه في قراءة الرواية الممتعة