التحليل النحوي للنص الشعري!
تعددت القراءات التي حاولت أن تتلمس جماليات النص الأدبي، ولاسيما في نوعه الأعذب، وأقصد بذلك النص الشعري، تلك القراءات التي أطلقت على نفسها ذلك المُصطلح الكيميائي والتشخيصي الطبي (التحليل)، فكان التحليل النفسي للنص، وهو غالباً ما ينسحب لتحليل شخصية المؤلف، أو التحليل التذوقي الانطباعي، وغيرها الكثير من (التحليلات).. غير أن الناقد محمد عبدو فلفل الذي يعود لنصوص شعرية إما أنها قديمة، أو هي من نموذج شعر العمود، أي الموزون والمُقفى، وإن جدد أكثر؛ فهو لن يتجاوز شعر التفعيلة، وذلك رغم مرور ما يُقارب من مئة سنة على قصيدة النثر التي أخذت اليوم عشرات الأشكال الشعرية، وذلك ليُحلل تلك القصائد من وجهة نظر (التحليل النحوي).. أي البقاء ضمن الحالة الشكلانية، وهي التي تُناسب -ربما- الحالة الإيقاعية للقصيدة العمودية، وكذلك لقصيدة التفعيلة، وربما نُفسّر بعضاً من ذائقته هنا بتأكيده أكثر من مرة خلال منعطفات هذا الكتاب على توضيح وتأييد مقولة مفادها: “إنّ الشعر خطاب إنشائي..”، ولو تجلى بتراكيب خبرية في عيار البلاغة العربية، كما يذكر أيضاً: إن الأولوية في الفن عامةً لكيفية القول، لا لما يُقال؛ فغاية الشعر الأولى – برأيه- هي الجمال الفني لا العقلي الفكري، وهنا لابدّ من السؤال: كيف يُمكن للمرء أن يتذوق من دون إشغال الفكر والعقل بالجمال الفني؟
ففي (صور من التحليل النحوي للنص الشعري)، كما أطلق الدكتور فلفل على كتابه الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة؛ فقد تناول الناقد قصائد لكل من: “أبي فراس الحمداني، عمر أبو ريشة، أنيس بديوي، خليل الموسى، خليل حاوي.. وغيرهم) وفي قراءته لديوان (على خُطا الزهر) للشاعر حسّان عربش، وفي مجال تأكيده على ما أشرنا إليه أعلاه؛ فإنّ قراءته هذه تأتي من مقولات المنهج التداولي، وذلك في محاولة لربط التقنيات الأسلوبية بما لها من دور في إنجاز شعرية الشاعر.. والتداولية؛ تُعرّف على أنها علم التخاطب، أو علم استخدام اللغة، أو دراسة اللغة في الاستعمال، لأنها تدرس أساسيات التخاطب، أو المرتكزات المُعتمدة بين المرسل والمتلقي.. ليخلص بعدها الناقد فلفل إلى خلاصة: إنه ليست غاية اللغة في الشعر من وجهة وظيفية تداولية؛ الوصف والإخبار؛ بل الفعل وإنجاز الأحداث وتغيير ما في العالم، والشعر بطبيعته مؤهل لذلك، لأنه قول تصويري تخيلي مشبوب بالانفعال..
ويُضيف د.فلفل: قيل في اللغة إنها نظام من العلامات حضورها دال، وغيابها دال، ولعلّ المقولة أصدق ما تكون في الشعر؛ فهو فن لغوي المادة، بل هو اللغة في تحققها الجمالي.. وأظن سيختلف الكثيرون مع رؤية د.فلفل، ولاسيما الذين يؤكدون أن الشعر (صورة) قبل أي أمر آخر، حتى إنّ ثمة من يُلاقي تقاطعات ومشتركات بينه وبين الفنون التشكيلية البصرية، والتي تُكثف بمقولة (الرسم بالكلمات)، بل إن اللغة نفسها ما هي إلا تعبير عن الصورة باعتبار الأخيرة سابقة لها.. وفي تبريره لما استخلصه د.فلفل؛ فهو يرى أنّ الوظيفة الشعرية أو الجمالية هي التي تُحدد فيه شكل القول أو التعبير، ولذا عُدت العناصر اللغوية معلماً أساسياً من معالم أدبية الفعل الشعري، ولذا كان تلمس هذه الأدبية في آلية عمل العنصر اللغوي في النص مسلكاً أساسياً من مسالك الكشف عن جمالية التجربة الشعرية، وإنّ هذا الانحراف أو الانزياح عمّا تُمليه الأصول النحوية بالمعنى العام لمُصطلح النحو؛ هما من السبل الأساسية التي يعوّل عليها الشعراء بنسب متفاوتة في إنجاز تجاربهم الفنية، لكنه يرى مع ذلك؛ إنه لا يعني ذلك بالضرورة أنّ كل انحراف لغوي في الشعر؛ حامل لمُنجز جمالي، فليس من النادر أن يكون ذلك معلماً من معالم عدم تمكن المُنشئ من حسن استثمار طاقات اللغة لينجز تجربته بها.
هذا الكتاب كما يصفه صاحبه: قراءات نصية؛ سعت إلى تلمس معالم رؤية بعض النصوص الشعرية، كما سعت إلى استثمار جمالياتها بالبعدين الدلالي والانفعالي، وذلك باستنطاق الحوامل اللغوية لهذين البعدين، باعتبار الأدب فن لغوي الماهية، وعناصر تشكيله اللغوية بغض النظر عن مستوياتها؛ إنما هي تجليات أو معادلات فنية لرؤية النص ولحمولاته الفكرية والفنية والانفعالية، ولأنّ هذه العناصر من مستويات لغوية مُختلفة؛ وسمت هذه القراءات بأنها صور من التحليل النحوي للشعر، وذلك بالمعنى العام لمصطلح النحو الذي يشمل دراسة اللغة بمستوياتها الصوتية والمعجمية والصرفية والتركيبية النحوية، وذلك بالمفهوم الخاص أو الضيّق لمُصطلح النحو.