«المسألة الشرقية» تعيد إنتاج نفسها.. كيف يمكن لمنطقتنا أن تهدأ؟

في النصف الثاني من العشرية الماضية، عشرية ما يسمى “الربيع العربي” عاد مصطلح «المسألة الشرقية» للبروز مجدداً، من خلال ربط “الربيع العربي” به باعتباره «الفصل الثاني» مما عُرف بالمسألة الشرقية في الربع الأول من القرن الماضي، القرن العشرين. هذا الربط لم يكن بمحله تماماً، بمعنى أنه ليس واقعياً بشكل كامل، إذ إن “الربيع العربي”، ومجمل أزمات المنطقة طيلة قرن مضى، ومن ضمنها العقدين الماضيين من هذا القرن، الـ21 هي استمرار للمسألة الشرقية، بمعنى أنها فصول متوالية من المسألة الشرقية (أو كما يسميها الباحثون: الأزمة الشرقية).. وهذا لا ينطبق فقط على منطقتنا بل على كامل الإقليم وجوار الإقليم، وصولاً إلى حدود أوروبا وروسيا.
الفارق فقط بين المسألة الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، دخول الولايات المتحدة الأميركية لتكون هي السيد الحصري، ولتخرج أوروبا، التي كانت الطرف الأساسي، في المسألة الشرقية (مع الدولة العثمانية) خارج المشهد/النظام/ الدولي الذي أرسته الحرب العالمية الثانية، ثم جاء الاتحاد السوفييتي ليكون شريكاً (مُقاسماً) للولايات المتحدة ليس فقط في هذا النظام الدولي، بل في كل الأزمات التي تلاحقت، وكان جذرها يرتد إلى المسألة الشرقية.
وللتذكير فقط فإن المسألة الشرقية كمصطلح خرج في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وارتبط بصراع الدول الأوروبية على أملاك الإمبراطورية العثمانية (الرجل المريض) التي أنهكتها الصراعات والانقسامات في أواخر عهدها.
وطبعاً كانت منطقتنا في قلب هذا الصراع باعتبارها كانت واقعة تحت الاحتلال العثماني لأكثر من أربعة قرون من الزمن.. وكانت اليونان وشبه جزيرة القرم، وصربيا العنوان الأضخم لهذا الصراع، لذلك عندما يتم استرجاع مصطلح المسألة الشرقية ليتم إسقاطها على ما يجري في منطقتنا، فإن هذا الإسقاط يشمل تلك المناطق حتى حدود روسيا (ولا يزال تفكيك الاتحاد اليوغسلافي عنواناً بارزاً باعتباره أحد تبعات المسألة الشرقية بصراعاتها المستمرة التي لم تنقطع في أي مرحلة تاريخية.. ويوغسلافيا هي مثال واحد فقط).. (حتى أحداث كازاخستان الأخيرة يمكن تشميلها ضمن المسألة الشرقية).
بالعودة إلى منطقتنا العربية وأزماتها منذ خروجها في ربقة الاستعمار العثماني ووقوعها بعد ذلك في استعمارات متعددة، لا تقل قسوة ووحشية ونهباً واستغلالاً.. هناك إجماع على أن منطقتنا لم تخرج من دوامة المسألة الشرقية، فهي كالرباط الواحد الذي يجمعها جميعاً، ما يعني أن المسألة الشرقية مستمرة في رسم خريطة الصراع الدولي، وعلى المناطق نفسها، وعليه فإن منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية، مستمرة في حالة تشابك واشتباك مع الغرب في لعبة أمم قديمة جديدة، وستبقى المنطقة في اضطراب وفوضى حتى تُرسي “المسألة الشرقية” خريطة نفوذ دولية جديدة، فإذا ما أرستها فعلياً خلال عقد من الآن، على سبيل المثال، فهذا لا يعني أن “المسألة الشرقية” وضعت أوزارها، وأن الصراعات ستهدأ، فما هي إلا فترة، قد لا تتجاوز سنواتها أصابع اليد الواحدة، حتى تعود هذه المسألة في أزمات جديدة.. ولا ننسى هنا الصراع العربي- الإسرائيلي الذي سينتقل إلى شكل جديد، رغم كل ما قطعه مسار التطبيع من محطات خلال السنوات الخمس الماضية، بمعنى أنه صراع مستمر، أياً يكن شكل خريطة النفوذ العالمية الجديدة التي ستعيد المسألة الشرقية إنتاجها.
ما بعد الحرب العالمية الثانية، قسّموا المسألة الشرقية إلى خمس أزمات أساسية: تفكك الاتحاد اليوغسلافي، تفكك الاتحاد السوفييتي، الغزو الأميركي لأفغانستان ثم العراق، “الربيع العربي”، وأخيراً أحداث كازاخستان التي لن تبقى بلا تبعات.. (ولدينا أيضاً أوكرانيا التي يُنظر إليها على أنها قد تكون فتيل نار لحرب عالمية ثالثة).
قبل الحرب العالمية الأولى قسّم المؤرخون المسألة الشرقية إلى خمس أزمات أساسية: حرب اليونان، حروب محمد علي باشا، حرب القرم، الحرب الروسية- التركية، مؤتمر برلين عام 1878 ثم ضم البوسنة والهرسك إلى النمسا في عام 1908.

هذا كان قبل الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) التي لم تنتهِ إلا وقد أنجزت الدول الأوروبية أهدافها في تفكيك الإمبراطورية العثمانية وتقاسم أراضيها، لكن نشوب الحرب العالمية الثانية، جاء بأسرع مما توقعت، فلم تهنأ طويلاً.. وكانت هذه الحرب المفصل التاريخي الأساسي الذي أعاد إنتاج خريطة نفوذ عالمية أخرى لم تكن في حسبان المتصارعين الأوروبيين، الذين أصبحوا مُلحقين بالولايات المتحدة من جهة، وبالاتحاد السوفييتي من جهة ثانية، وخلال أقل من عقد بعد الحرب العالمية الثانية خسرت القوى الاستعمارية الأوروبية كل مستعمراتها العربية وغير العربية. ليس هذا فقط بل أصبحت في موقع المأمور الذي لا يملك من أمره شيئاً.. لكن الصراع لم ينتهِ، وعلى المناطق نفسها أيضاً.. الفارق الوحيد أنه انحصر في قوتين فقط، أميركية وسوفييتية، وذلك حتى بداية تسعينيات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتفرد الولايات المتحدة بزعامة العالم.
أيضاً، لم ينتهِ الصراع، فمع بداية هذه الألفية، ظهرت قوى دولية جديدة (الصين، روسيا العائدة بقوة) تنافس الولايات المتحدة وتزاحمها، وهي مستعدة للتصارع معها، لكنه صراع اتخذ وجهاً اقتصادياً أكثر منه عسكرياً، فبينما كانت الولايات المتحدة توسع حروبها، خصوصاً في منطقتنا، كانت هذه القوى توسع أسواقها التجارية حول العالم، وتستقطب الدول والشعوب عبر دعمها اقتصادياً وتوسيع آفاق الرفاهية والتقدم فيها.. وبالمقارنة خسرت الولايات المتحدة ما سُمي حينها معركة (كسب القلوب) ليبرز سؤال ردده الأميركيون بصورة مستمرة ولسنوات (تحديداً ما بين 2005 و2011) وهو: «لماذا يكرهوننا؟».. وطبعاً كان الجواب معروفاً، لكن الأميركيين لم يقبلوا يوماً سماعه إلا مضطرين وهم يرون خصومهم (الإستراتيجيين) يحتلون أماكن نفوذهم حول العالم، وعليه كان لا بد من تغيير السياسات والإستراتيجيات، فكان تفجير«الربيع العربي» وكانت سورية على رأس المستهدفين، ولهول ما خلفه هذا الربيع المزعوم من كوارث وما أساله من دماء، كان هناك إجماع على أنه الفصل الثاني من المسألة الشرقية، في حال اعتبرنا أن الفصل الأول هو الحرب العالمية الثانية وأهوالها وكوارثها وعلى رأسها القنبلتان النوويتان اللتان ألقتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين لتنهي الحرب لمصلحتها.
هناك من يدعو للتركيز على سورية وما يجري فيها، لأنها بمنزلة «خط الصدع في السياسة الإقليمية والدولية، وأن مُخرجات الصراع عليها سوف تُعبِّر إلى حد كبير عن طبيعة النظام الإقليمي والدولي في المرحلة القادمة».
أي إن سورية (وتالياً المنطقة) لن تهدأ إلا باتفاق على المصالح ومناطق النفوذ بين المتصارعين، وهو اتفاق لا يبدو أنه في المدى المنظور.
الحديث يجري الآن عن فصل ثالث للمسألة الشرقية، وحتى قبل أن يُغلق الفصل الثاني (الربيع العربي وتبعاته) ويقصد هنا اشتعال حرب عالمية ثالثة، لا بد منها لتهدئة المتصارعين، إلى حين، ونقصد بالتهدئة هنا النظام الدولي الذي ستفرزه والذي سينعكس على تقاسم المصالح والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط، وضمنها المنطقة العربية.. وتالياً نوع من التهدئة بين القوى المتصارعة، لكنها كما قلنا تهدئة إلى حين، لأن المسألة الشرقية لن تنتهي فصولها طالما أن النظام العالمي يولد في كل مرحلة زمنية قوى جديدة صاعدة تريد حصتها من المصالح ومن النفوذ.
كاتب من العراق

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار