فُرات إسبر تنسجُ قولها الشعري «تحت شجرة بوذا»!
“ها أنا أيتها الغابة أجمعُ أغصانك،
من حصادِ امرأةٍ تعبرُ مثلَ غيمةٍ،
تطمرُ أسرارها في أرضكِ الميتة..”
ليسَ اعتباطاً أن تعنون الشاعرة فرات إسبر أولى قصائد مجموعتها «تحت شجرة بوذا» بـ«كالطير لا أنتمي إلى أحدٍ»، فهذه الشاعرة السورية التي تُقيم في بلاد الغربة – نيوزلندا- منذ عقود؛ استطاعت أن تُفارق الديوان الشعري السوري بمقدار قطاف نجمة، وذلك بالكثير من الملامح.. ملامح استطاعت أن تُشكّل من خلالها، وبعد إنجازِ ما يُقارب من ست مجموعات شعرية؛ أسلوبها في القول الشعري.
فـ”الأرضُ ما عادتْ تُصادقني،
كلّ يومٍ أقطفُ نجمةً وأعلو بها
فوق أحوالٍ مُحيت رسُومها..
وكنت على سفرٍ، ومن الزاد جمرات في فمي
تطوفُ فوق الماء،
تتأملُ الأرض من فوق بُحيرات السفر..”
وبعدها عن هذه الأرض التي تُعوّل على تأنيثها ليس تكبراً، وإنما هي حكمةُ المسافات، فالشاعرة لا تزالُ رغم مآسي الجغرافيا؛ لها جذورها السورية التي لا ريب فيها، لشجرةٍ شعرية وارفة واضحة الأغصان والأوراق والثمر.
في «تحت شجرة بوذا» الصادرة عن دار العرّاب في دمشق؛ تكاد تكون معظم شواغل القول الشعري؛ هنّ الغريبات النائمات على حافة الأرض بانتظار موت الحرب، هذه الحرب التي أمست شجرة الذاكرة والتي علينا أن نملأ فراغها بالنار والظلام.. «تحت شجرة بوذا» لن تكتفي الشاعرة بأن عنونت فيه المجموعة، وكذلك إحدى قصائد هذه المجموعة؛ بل إن هذه الشجرة كثيراً ما زحفت لتكون أو تُشكّل منها غابة كلام شجرية، غابة صوّرت منها عشرات المشاهد الخضراء، أشجارها مرةً أوطان، وحيناً نساء: أمهات، وشقيقات، وعشيقات، وطوراً هي الحياة بكل ألوانها.. شجرة ليست من فصيلةٍ واحدة، بل هي غابةُ أشجار؛ شجرة الحب، شجرة بكاء، شجرة العائلة. أشجار أشجار دائماً، وكأنّ الكون كله غابة. ومن هنا تُكثرُ الشاعرة من التراكيب المبنية على هذه المُفردة، وبما يوحي بمجتمع الشجر من غابات وأنهار وينابيع وسفوح. تلك الشجرة التي هي في مراتٍ كثيرة؛ كلما حاولت قطف ثمرةٍ عن أغصانها يخزها شوكها، وهي تُدافعُ عن نفسها بالجمال كما المرأة التي تُدافعُ عن نفسها بالقصيدة، وطالما أنّ اليأس أعلى من الشجرة، وكلّما حاولت الصعود؛ تسقط..
“قلتُ للشجرة التي سقطت ثمارها:
سألتقطُ حباتكِ، حبةً، حبة، وأضعها في صحنِ البيت..
هزّتِ الشجرةُ أغصانها، وبلطفٍ قالت:
آهٍ كم أنتِ وفيةٌ أيتها المرأة،
سأبقى أنا هنا،
وأحملك إلى مكانٍ آخر..”
هذه الشجرة التي يبدو أنها عقدت عهداً مع الشاعرة؛ أن تُبقي جذورها هنا في سورية الحامية للجذور، فيما تحملُ الشاعرة على أغصانها إلى أقصى العالم.. ولأن الجذور هنا، يصيرُ «باب مصلى باب عطارد» كما تعنونُ إحدى قصائدها.
“بابُ عطارد؛
بابُ مصلى..
الزّاهرة.. الفرن الآلي،
دف الشّوك..
الأجراسُ تُقرع في باب توما،
وتحكي عن مريم تحت جذع النخلة..
صوت المؤذن؛
الأسماء، الأصوات أعرفُها،
علاماتٌ كنتُ أرسمها كي أعودَ من طريق ضياعي..”
في «تحت شجرة بوذا»؛ التي يبدو أنّ الشاعرة تأملت طويلاً، لتكتشف أن المرأة والشجرة وجهان لأخضرٍ واحد، وربما لذات الثمر، وأكثر ما يتجلى هذا التماهي في قصيدتها– عنوان المجموعة.. وفرات إسبر تُعطي كما الشجرة.. وسرُّ العطاء، أنها تكتب بما يُشبه منازلة الموت، أو على الأقل تتحايل عليه بالكتابة التي هي ميراثها الأخير، تكتبُ الشاعرة كلَّ ذلك لأنه أمسى للحزن حقولاً، وتكاد تُلتهمُ شجرة اليأس الغابة كلها، والحقيقة أن مفردة اليأس دائماً تحشرُ نفسها في زاوية ما من أخضر القصيدة كأفعى تمدُّ بلسانها لعصفورٍ مُحاصر:
“أعلم أنني سأموت؛
لذلك قررتُ أن أكتبَ كلَّ يومٍ قصيدة،
ربما ينبعثُ العطرُ،
والفراشاتُ تطير..
ربما تصبحُ الكلمة شجرةً،
وتصبحُ الشجرةُ فاكهة..”
تبني فرات أسبر نصها الشعري، بجملٍ وجيزة، لا مجال فيها لأي ترهل، ولذلك كانت هذه الحال من (الحكمة) التي تُرخي ما يُشبه الوشاح من التراكيب الشعرية الأشبه بالتعاليم، أو التعريفات بحالاتٍ ومشاعر مختلفة فـ«الحنين؛ حطب الشتاء»، والـ«بلاد تنامُ الحربُ في أحضانها؛ لا ثمار للقبل فيها»… وغير ذلك الكثير، وهي في كل ما تكتب؛ كانت غايتها أن تكتب الشعر وترميه؛ «ربما تقرأ الغيمات وتبكي».. وربما مفردة النهر، تأتي في المرتبة الثانية في تسللها للتركيب الشعري في قصيدة إسبر، رغم أن مآلاتها وتأويلاتها كانت كثيرة، غير أنها لم تبتعد عن مناخات وتلوينات الأشجار، وهي بكل ما تملك من مهارة النساجات؛ تحرس بحواسها الكلمات، تُشعلها بخوراً، وتطوف بها لتشفّ سمواً.. وهنا ملعب الغواية اللغوية وحياكة الحروف حيث تكمن شعريتها في المقدرة على «اللعب» بالكلمات تماماً كنساجة:
“لي من الأسماء أجملُها:
فاءٌ تفرُّ إلى منفى، يحرسها الظلُّ الحبيس،
راءٌ ترى بعينٍ تُدرك أن العمى متعةٌ لبصير،
وألفٌ كقامتي لا تنحني إلا لشرب الماء من عذب الينابيع..
()
تاءٌ أتيه بها مثل فرقدٍ
لا على الأرض يهبطُ،
ولا في العلا يستريح..”