القصيدة كعارضة أزياء للغة
تكاد تكون شواغل القصيدة العربية واحدة، أو ما كنا نطلق عليه أغراض القصيدة و لاسيما القصيدة التي اعتمدت منها بحور الخليل، فهي تكاد تكون متماثلة ومتطابقة، ضمن البحور الستة عشر المعروفة، فقد اقتصرت مضامينها في تلك الصحارى العربية، ومنذ مئتي سنة قبل الإسلام وحتى مطالع القرن العشرين، مروراً بعصور الإسلام الأولى والعصرين العباسي والأموي، وفي كل عصور الانحطاط بعدهما حتى العصر العثماني، اقتصرت شواغل القصيدة العربية – إلا باستثناءات قليلة – على المديح، الفخر، الهجاء، الرثاء، والنسيب. ونادراً ما تجاوزت القصيدة الكلاسيكية هذه الشواغل. ربما باستثناء بعض الانعطافات – كما ذكرنا – التي أتى بها شعراء بعينهم، كأن يتوقف الشاعر مثلاً عن حالة البكائية على أطلال الحبيبة حيث كان يفعلها الشاعر العربي مهما كان موضوع القصيدة، فكان على أبي النواس مثلاً في العصر العباسي؛ أن يُحدث شيئاً ما، أقرب إلى ثورة في اللغة، طالما أن أغراضها محدودة، بتغيير مكان وقوفه، ويُنهي كل حالات المناحة والولولة الطللية. ؟!
عاجَ الشقِيّ على دارٍ يُسائِلُها،
وعُجتُ أسألُ عن خَمّارَة البلدِ
لا يُرْقىء الله عينيْ من بكى حجَراً
ولا شفَى وَجْدَ من يصْبو إلى وَتَدِ
تلك “الخمرةُ” التي احتار الباحثون في ماهيتها، هل هي الخمرة الحقيقية، أم إنها نشوة صوفية عرفانية عالية !! أي إن أبي النواس، ومن أتى بعده، لم يغيروا مواضيع وقضايا القصيدة إلا قليلاً، لكن كان إنجازهم باللغة، ومن هنا تتوافر قوة الشاعر العربي، وقوة القصيدة العربية، وذلك بإيجاد ذلك “المُعادل اللغوي” للفكرة، أو لصياغتها، وعلى ما يرى كثير من المهتمين بالشعر وبجمالياته، فإن التجربة الشعرية، وحتى تختلف وتُشكلُ علامةً فارقة، فليس أمامها سوى (اللغة) والمجال واسعٌ لفتح الأبواب للدخول ونحت قواميس جديدة للقصيدة، وتخليصها من مفردات ملت هي كما المفردات نفسها من استخدامها في ذات السياقات لدهورٍ طويلة، ومن ثم، ومن أجل أن تتميز وتختلف القصيدة، وحتى التجربة الشعرية الكاملة للشاعر عن سواها في المشهد الشعري، سواء المحلي منه، أو المشهد الشعري العربي بشكلٍ عام، على هذه التجربة الشعرية، أن تكون أولاً وقبل أي شيء آخر، تجربة في اللغة، على اعتبار أن المفردة هي أصغر الوحدات التي تقوم عليها بنية القصيدة على ما يرى الكثير من النقاد.. وعلى ما يرى هؤلاء أيضاً، فإنهم يجدون أن قوة القصيدة وفرادتها تكمن في اللغة الجديدة التي تأتي كلباسٍ للفكرة، ويقصدون بذلك المعنى والمبنى، وليس أحدهما دون الآخر.
إذن.. الفكرة، أي فكرة القصيدة أشبه بالجسد العاري، وعلى الشاعر أن يختار لهذا الجسد أجمل الفساتين والقمصان اللغوية لتقديمها كأجمل عارضة لغة، تلك الفساتين التي كانت تفتح دائماً دروباً جديدة للقصيدة العربية، ومن ثم لم يصل الإبداع العربي في الشعر إلى خواتيمه المحزنة، أو يصل إلى مرافئه الأخيرة، كما حصل للكثير من أنواع الإبداع الأخرى، الذي راح مبدعوه يبحثون عن منافذ جديدة لإنقاذه من الانقراض، ألم تذهب القصة القصيرة – على سبيل المثال – المتعارف عليها اليوم صوب النهاية؟!
ففي كل مرحلة؛ ثمة شاعر يتوفر للقصيدة العربية، ليخترع لها قاموساً جديداً، يأخذ منه باقي الشعراء (القماشات) الملونة ليفصلوا منها تلك اللبوسات اللغوية لأفكارهم لتصير قصائد بكامل جمالها، بمعنى حتى وإن دار في فلك ذلك الشاعر الخلاق الكثيرون كأن نتحدث عن الأدونيسية أو الماغوطية في الشعر فليس ثمة مشكلة، ألم ينزل نزار قباني باللغة الشعرية من عليائها لأن تستمتع بها ربة المنزل في مطبخها، ومن ثم كان القباني شاعراً لغوياً من صنفٍ نادر. ألم يُذهل العالم محمد الماغوط بتلك التراكيب التي صاغ بها قصيدته، ومن ثم كان شاعر تراكيب مدهشاً . ألم يأخذنا أدونيس بذالك السحر من الفكر والتأمل البعيد في القصيدة، ومن ثم كان أن وفّر للقصيدة هذه الفلسفة العالية. ألم يجعلنا صقر عليشي ومحمد عيسى ومحمد عُضيمة نبتسم بملء دواخلنا بتلك النفحات الساخرة والمتعة في القصيدة، ألم يُبكنا نزيه أبو عفش بتلك الحالة من العبثية والنفحة الشعرية الأقرب إلى الجنائزية.. كل هؤلاء وغيرهم، وإن كانوا قلة، كان عليهم اختراع تلك الصياغات اللغوية، ومن ثم تكون القصيدة بمجملها لعبة لغوية في مشيتها ورقصها على حبال الواقع حيناً، وعلى أراجيح المجاز والخيال حيناً آخر.
من هنا أيضاً؛ كان على النقد أن ينتبه بكل حواسه إلى كيفية قيام الشاعر باختيار الكلمات، أو كيفية اختيار أزياء القصيدة، ومعرفة أناقتها وذلك بربطها ببعضها، ولما توفره من ثروة لفظية، ومن ثم ثروة جمالية تُقدمها للمتلقي وللشاعر نفسه؛ ليمتلئ بكامل النشوة والمتعة التي على الإبداع أن يُقدمها ويحملها.