الماركسية قابلة لاستعادة الفاعلية في المجتمعات
يتابع الباحث في الفكر “عطية مسوح” حفرياته المعرفية منذ كتابه الأول “الماركسية وأسئلة العصر”، ثم صدر له ” الماركسية من فلسفة للتغيير إلى فلسفة للتبرير”، و” مقاربات في الفكر والثقافة”، و” الديمقراطية والنهضة في مشروع خالد محمد خالد”، وكتب أخرى في نقد الأدب: ” منارات شعرية” وكتاب ” إيليا أبو ماضي الروح الفلسفية في شعره – دراسة ومختارات”، وله كتاب جمع فيه نخبة مقالاته الهامة في الفكر والثقافة بعنوان “مقاربات في الفكر والثقافة”، وآخر ما صدر للباحث مسوح عن الهيئة العامة السورية للكتاب كتابه “تجدّد ماركس”. ونزعم أن الكتاب لم ينل حقه من الاهتمام لدى الهيئات الثقافية ولا الإعلامية أيضاً. فلعلنا نسهم بالتذكير به فيما سنقتطف منه ونعرف به.
تناول الكتاب مشكلة الديمقراطيّة في فلسفة ماركس. ولذلك بيّن الباحث مسوح أنّ الماركسيّة هي فلسفة في الحرّيّة, وهي ذات منطلق ديمقراطي لأنها وضعت مصير الإنسان في يده, بعد أن كانت معظم الفلسفات السابقة قد وضعته في يد الغيب أو في يد العظماء والزعماء “الموهوبين المتنفّذين”. ورأى فيه الباحث مسوح أن الماركسية أيضاً ذات غاية ديمقراطية, فهي ترمي إلى تحرير الإنسان المنتج من الاغتراب الذي وضعته فيه علاقات الاستغلال, وإطلاق طاقاته لينتقل من عالم الضرورة إلى عالم الحرّيّة. لكن بين المنطلق الديمقراطي والغاية الديمقراطية حلقات منها ما هو غير ديمقراطي, أدّت إلى اتجاهات غير ديمقراطية في الممارسة التي استندت إليها. ولقد درس الباحث هذه الحلقات وما بُني عليها, وتوصّل إلى ضرورة وطريق الخلاص منها.
وقد عمد الباحث مسوح في مستهل كتابه إلى ” توسيع دلالة المصطلح”, تناول فيه ضرورة الخلاص من الانغلاق الناتج عن تضييق دلالة كلمات: اشتراكيّة وماركسيّة, ويساريّة على امتداد القرن العشرين. ولقد تتبّع في هذا الفصل أهمّ مظاهر تضييق الدلالة وأسبابها ونتائجها, وتطرّق إلى تجربة الأحزاب الاشتراكيّة والماركسيّة التي ظهرت في القرن العشرين, وما برز في تلك التجربة النضاليّة من إيجابيّات وسلبيّات, وما حلّ بها نتيجة التبدّلات الكبيرة في الواقع الدولي ولاسيما بعد ما عُرف بثورة الاتصالات والمعلومات, وبعد نهاية الصورة النموذجيّة للحرب الباردة التي شكّلت محور الصراعات في العالم نحو خمسين عاماً, وحلول أشكال ومحتويات أخرى للحرب الباردة في هذه الفترة من القرن الحادي والعشرين, وضرورة ولادة الجديد الاشتراكيّ والماركسيّ القادر على استيعاب معطيات العصر. وقدّم الباحث أمثلة عدة على تضييق دلالة المصطلح. وفي موضع آخر من هذا الفصل يناقش قضية هامة وهي استصغار دور الفلسفة السابقة للماركسية، من خلال الفكرة الخطأ التي تتجسد بالعبارة بأن الماركسية شكلت قطيعة معرفية مع الفلسفات التي سبقتها، ومع الفكر الفلسفي والاجتماعي السابق أو المزامن أو اللاحق ومن ضمنه الفكر الاشتراكي المتعدد الألوان. ويقول الباحث مسوح: لو توسعنا قليلاً في مناقشة هذه العبارة فسنجد أنها تحتوي على مبالغة وتعميم، فالفلسفة الأوروبية في (عصر العقل)، وأبرز أعلامها الفرنسيان (بيكون وديكارت) والهولندي سبينوزا، والإنجليزي هوبز. وفي (عصر التنوير)، وأبرز أعلامها الإنكليزي لوك، والفرنسيون مونتسكيو،وفولتير، وروسو، وغيرهم، كان لها أعظم إسهام في التغيير، الذي جوهره انتقال المجتمعات الأوروبية من العلاقات الإقطاعية إلى الرأسمالية،فقد واكبت تلك الفلسفات نشوء العلاقات الرأسمالية ومهّدت العقول لقبولها، كما أسهمت أكبر إسهام في هدم سلطة المؤسسة الدينية التي كانت حارسة للعلاقات الإقطاعية والقيم السياسية والاجتماعية التقليدية، والسيفَ المسلطَ على حرية التفكير. كما أن فلسفة هيغل هي فلسفة الجدل الحديث الذي اعتمده ماركس وأوقفه على قدميه وكذلك فلسفة فيورباخ، هما (مصادر الماركسية) كما يؤكد لينين، الذي وصل بعد استعراض تلك المصادر، إلى القول إن مذهب ماركس هو ” الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الإنسانية: الفلسفة الألمانية والاقتصاد السياسي الإنجليزي والاشتراكية الفرنسية”.
وتناول في الفصل الثالث, ثورة البلاشفة الروس بعد مئة عام من قيامها, بوصفها أول تجربة واقعية أعلنت استنادها إلى فكر ماركس, تحت عنوان “ثورة أكتوبر: الرغبة الثوريّة والضرورة التاريخيّة”. عالج فيها وفق قوله، ثنائيّة الرغبة والضرورة وبروزها في تلك الثورة, وتطرّق إلى الشروط التي تجعلُ من الحدث الممكن حدثاً ضروريّاً, وأثر عدم توفّرها في مسيرة الثورة وطبيعة النظام الذي ولّدته ومآله.