عن الحبّ.. بين القدود الحلبيّة والرومانسية الرحبانيّة!
كلما استمعتُ واهتزّت روحي مع القدود الحلبية؛ شكرتُ الربَّ على هذه الحالة من النشوة الموسيقية التي أسبح فيها، وكلما استمتعتُ برحيق الأغنية الرحبانيّة كلما ازدتُ قناعةً بأن سرّاً من أسرار الله ينكشف لنا عِبرَ صوت فيروز التي قالت لنا روحها نغماً ونقلت لنا فِكر الأخوين رحباني على شكل معجزة.
لكنني أتساءل أيضاً: لماذا نجدُ “الحبَّ” في الأغنية الحلبية مملوءاً أحياناً بالهمّ والوجع بينما نراه عند الرحابنة خفيفاً لطيفاً؟ وكي لا يستعجلَ القارئُ الغيورُ لأحدهما فإن تساؤلي هذا من باب البحث الموسيقي المشروع وليس أبداً من باب المفاضلة بينهما أو القول إن إحداهما أفضل أو أرقى أو أكثر عراقة من الأخرى.
«تشرين» استطلعت آراء بعض الباحثين، فذهب المايسترو نزيه أسعد إلى تشريحٍ موسيقيٍّ يقول فيه:
«بالنسبة للأغنية الحلبية، معروف عنها أنها تُعدُّ على الخط الصوفي وتحديداً (القدّ/ وهو لغةً: القِدّ أي المسار أو الخط الديني) وهو تغيير الكلام الغزلي المنظوم على لحن معين إلى كلام آخر على اللحن نفسه. ونلتمس هنا الكلمات الحزينة لكن بمعاني الرحمة والتضرّع والخشوع لله.
وهذا يفرض حالةَ الشجنِ والحزن نتيجة فكرة مخاطبة الإنسان لله وطلب المغفرة والرحمة منه. لذلك حصل هذا التحوّل في القد نفسه، بمعنى من غير المعقول أن تبقى كلماتٌ فرحة مع لحن حزين! أو كلمات فيها خشوع وشجن مع لحن فرح! وهكذا اتّسمت القدود بهذا الطابع (مثل: “ويلاه من نار الهجران” و”بقلبي حسرة ونضرة”) لكن ذلك ليس شرطاً ملازماً للأغنية الحلبية إذ بقيت هناك أغان غزلية بكلمات بطابع سعيد مثل (جاني حبيبي أبو الحلقة باللهجة العامية الحلبية/ وقدّك المياس يا عمري) ومعظمها فيها طابع طربي كجمل موسيقية شرقية».
ويكمل أسعد فيقول: «أما فيما يخص الأغنية الرحبانية فهي أيضاً أخذت الطابعين ولا يمكن حصرها بإحدى الطريقتين مثلاً (أغنية لا إنتَ حبيبي) التي تحمل الطابع الرومانسي وليس طابع القدود وهذا ما يجعلها مختلفة من ناحية النمط الموسيقي وليست مختلفة من حيث الشجن أو الحزن أو السعادة والفرح أو التضاد بين الحب الحزين والحب السعيد. إذاً لا مدرسة من هاتين المدرستين تحمل طابعاً واحداً أو قالباً أحادياً لحالات الحب المتعددة إنما كلاهما نوّعتا في أساليبهما بما يقتضيه مزاجُ الحبّ نفسُه».
بينما يعود بنا الباحث الموسيقي جمال عوّاد نحو الجذور في الفترة العباسية إذ في رأيه أن لهذا أسباباً اجتماعية وسياسية وثقافية انعكست في الأغنية العربية لكونها مرآة لقيم المجتمع وثقافته بشكل مباشر ولا شعوره الجمعي بشكل غير مباشر. ولم تشذّ الأغنية الحلبية وجزء من الأغاني المبكرة للأخوين رحباني عن تلك القاعدة (مثل: بتسأل إذا بهواك، قالو ابعدي، سمعت الجيران بيقولو، بس مين دلك) ولكن مع فروق مهمة طورتها الأغنية الرحبانية فيما بعد.
لكن، وقبل البحث في تلك الفروق يذكرُ عوّاد سبب تلوُّن أغاني الحب العربية بالقتامة والحزن فحسبه «هو ذلك الظل الأسود الثقيل بعد تفكك الدولة العباسية التي أنتجت أغاني اللهو والمرح وقد زاد الاحتلال العثماني الطين بلة بعد ذلك، مع ما رافق كل هذه التغيرات من قيود هائلة على الفن باستثناء قصور السلاطين بطبيعة الحال. فأصبحت الشكوى من الحبيب والحب تورية للحزن الدفين في نفوس الأدباء والفنانين ومن الطبيعي أن يتسبب التزمّت والفصل بين الجنسين، في صعوبة التواصل بين العشاق، كما تسبب ذلك أيضاً في النهايات المأسوية لمعظم علاقات الحب آنذاك. كل ذلك أصبح أسلوباً متوارثاً في الغناء حتى في الأوقات والأماكن التي زالت فيها الظروف المذكورة سابقاً».
وبالعودة إلى الأخوين رحباني، يتابعُ عوّاد، «فقد انطلقا في فضاء الأغنية العاطفية انطلاقة رائدة ومهمة جداً، وظهر الحب إمّا حباً رومانسياً عفيفاً بتأثير قصائد وأشعار سعيد عقل مثل (شال، مرجوحة، فتحهن عليي) أو حباً محافظاً على رومانسيته ولكنه تفلّتَ بخفةٍ ورشاقة وتهذيب من تلك العفّة المفرطة، كما انطلق باتجاه تحدي المجتمع (مشوار، بقطفلك بس، تبقى ميل، أنا وسهرانة، يمي ما بعرف كيف.. إلخ) أو يبدو الحب كقوة غامرة تتجاوز العلاقات الإنسانية لتسمو إلى المطلق كما في أغنية «حبو بعضن تركوا بعضن» إذ حسم الأخوان رحباني نهاية كل حب أرضي لمصلحة الحب المطلق الذي تجسد بالميزان المرسوم موسيقياً وشعرياً في الأغنية، وبالرموز المطلقة زمانياً ومكانياً (قبل الحب، وقبل الوقت أول شتي)».
ومقارنة مع أغاني المدرسة الحلبية يقول عوّاد: «لم نجد هذا التطور فيها لأن حلب اقتصرت بعد إنتاجها عمالقة التلحين والتأليف على إنتاج الأصوات وليس انتاج مبدعي الأغنية الجديدة، واقتصرت الأغنية الحلبية على ترديد التراث وإنْ كانَ ذلك بروعةٍ لا مثيل لها وبتطوير في الأدوات الموسيقية إنما بعيداً عن تطوير النصوص».
ويرى الفنان الحلبيّ صفوان العابد وهو أحدُ عمالقة الطرب الحلبي المعاصرين «أن ميزة القد الحلبي أو الأغنية الحلبية على وجه التحديد هي الكلمات واللحن المصوغان ببساطة وسلاسة من أجل أن يتقبّلها المثقف والإنسان العادي في البيئة الحلبية، وأغلب القدود تأتي من طابع الأرض أو الماء العذب وهي ليست بحزينة إنما هي فرِحة تتغزل بالمرأة الحلبية أو بقلعتها أو بحاراتها القديمة (مثل: أول عشرة محبوبي/سمرا الكحله بتلبقلك/ هالأسمر اللون/ قدك المياس يا عمري) والكثير من القدود والأغاني الفرحه القديمة والحديثة التي لا تخلو من روح الطرب الأصيل».
ولا يخفي العابد وجود بعض الأغاني الحزينة فعلاً التي تتكلم عن حالات ألم الفراق والابتعاد عن الحبيب أو الحبيبة. لكن المشكلة في رأيه تكمن في عقلية واضعي اللحن «فعندما يقرأ الملحّنُ النصّ المكتوب يضع له لحناً حزيناً ولكن ليس بالضرورة أنّ كل ما يدرج ضمن أغاني المدرسة الحلبية هو من النمط الحزين، إنما على الأغلب تكون الأغاني الحلبية مفرحة لأن أصوات المطربين الحلبيين هي أصلاً تطريبيّةٌ ومبدعة في هذا المضمار وقد تدربوا ونشؤوا على هذه الأغاني وسماعها منذ صغرهم».
ويرى العابد «أن الرحابنة هم فعلاً أسياد اللحن المُفرح والكلمة البسيطة الغنية التي تدخل من الأذن إلى القلب بسلاسة وعذوبة. أمرٌ آخر مهم هو قوّتُهم في الصور الشعريّة أي في قدرتهم على أن يضعوا الكلمة ويصوّروا الحالة الوجدانية لحناً، والأهم في اعتقادي هو انتقاء المقام الموسيقي المنسجم والمتآلف مع روح الكلمة، ثم يأتي الصوت الفيروزي القدير ليتمّم الصورة التعبيرية الكاملة للأغنية الرحبانية الساحرة».