“آربين داينكر” يُنوّع شعراً هولندياً كمثل السباحة في نهرٍ جبليٍّ بارد!
“الحبُّ ملموسٌ أكثر من كأس نبيذ،
الحبُّ ملتبسٌ أكثر من قمرٍ على السطح.
السلّمُ عندك يُشبهُ قُبلةً؛
قبلة، كنتُ قد رأيتها في شبابي”.
نهبطُ درجة، نرتفعُ درجة، ثمة التباس هنا، يصلُ حدّ التناقض أحياناً في تفسير هذا الفُراق والوصال الذي يحدثُ في الآن ذاته؛ في غاية هذه الدرجات التي هي بقدر ما توصل، بالقدر ذاته ما تُفرّق، وبقدر ما ثمة ارتحال بين الدرجة عن الأخرى، هي أيضاً اتصال وتواصل حيث كل درجة تُفضي إلى التي تليها.
هذا السلم الذي اختلفت أشكاله، بين أن يكون ثابتاً كدرجٍ من حجرٍ أو حديد، أو قد يكون متحركاً بمعنى قابل للطي والوصل والحمل، وغير ذلك.. هو الدرج، وهو السلم أيضاً، وهو في الحالتين مُفردة كثيراً ما فاضت عن غايتها كوسيلة للصعود والنزول حتى دخلت نصوص الأمثلة الشعبية؛ فالرجل الذي يخلق المشاكل، أو يخترعها، أو يتورط بأمورٍ كان من الغنى عنها، هو الرجل -قد تكون امرأة أيضاً- هو المرء الذي (يحمل السلّم بالعرض) فطريقة حمل السلم لها أصولها عندما نمشي به في الشارع وبين الناس نظراً لطوله، ومن ثم حمله بالعرض؛ فالغاية هنا أذية الآخرين ممن يمشون بالطريق الذين غالباً سيكونون ضحية لضربةٍ منه، إن كان الطريق ضيقاً على سبيل المثال.
وهنا لمن يُريد أن يحصل على درج مغسولٍ ونظيف؛ فعليه (شطفه من الأعلى)، وهذا ما يُرمز به لحركات الإصلاح، فدائماً الإصلاح يبدأ من الرؤوس الكبيرة، التي هي على الأغلب تحمي الرؤوس الصغيرة، والتي غالباً ما تكون الأخيرة أداة من أدواتها..
“هذا السلم يصدحُ مثل الناس الذين لم يتعلموا الغناء،
هذا السلم يصدحُ مثلَ شجرةٍ تكادُ تكون بلا ظل،
هذا السلم يصدحُ مثل رحّالة لا يبرحُ منزله أبداً..”
السُلّم ودرجاته؛ هو ما شكّل للشاعر الهولندي آربين داينكر بتنويعات شعرية مُفعمة بالمجاز والتأويل في ديوانه “سلّم سكارْبا” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة، ترجمة الدكتور إبراهيم استنبولي.
هذا “السلّم” الذي يبدو أنه شكّل باعثاً شعرياً لغير شاعر، فقد سبق الشاعر الهولندي آربين داينكر؛ شاعرٌ آخر، وهو روسيٌّ من زمن الاتحاد السوفييتي وتغنى بتلك الدرجات قصائد شعر، فلصورة السلّم؛ شجرة نسب فائقة في نموذجيتها، يرى الشاعر مكسيميليان فولوشين (1877-1932) أنّ:
“العالم- هو السلّم
على درجاته صعد الإنسان،
ونحن نحسّ بما تركه
في طريقه من آثار.”
غير أن للسلم ودرجاته عند داينكر مفهوماً أكثر خصوصية، ذلك أن هولندا موطن الشاعر؛ تعدّ البلد الأعلى في أوروبا من حيث طبيعة البناء فيها، وهو أمر فرضته الكثافة السكانية، أي إن الحيز الجغرافي المحدود، فرض النظام العمراني الشاقولي والعمودي حتى عدّت هولندا “مملكة السلالم ذات الدرجات شديدة الانحدار” .. في هذه البيوت الممطوطة عاش داينكر هذه الحالة من الدرجات، حيث السلّم هو صلة الوصل كما الدروب بين الأماكن، وكان المهندس الإيطالي كارلو سكارْبا (1906-1978)؛ قد قام بتصميم سلم يُحكى أنه فائق الروعة، يتناغم بصورة عضوية مع المظهر الداخلي تاريخياً للقصر الموجود بمتحف (كاستلفيكّو) في مدينة (فيرونا).. هذا التصميم؛ كان له دوره هو الآخر في بواعث الشعر ذي الدرجات على مبدأ ذلك السلم الذي يتصاعد بشكلٍ شبه عمودي محاذياً الجدران.
“أودُّ لو أحيا على هذه الدرجات،
وأقوم بطلاء أظافري، وأشبك شعري،
أن أغسل الثياب، وأنظّف أسناني،
وأمسحُ وجنتيَّ، وأطلي شفتي،
لكان مظهري شبيهاً بعالمي الداخلي تماماً..”
تلك الدرجات شكلت لدى الشاعر الهولندي “خشبة مسرحية” جسّد عليها حكايات لأربع شخصيات منهم المهندس سكارْبا نفسه، إضافة لمطربٍ هندي، وامرأة ذات وجهٍ منمش، وامرأة أخرى بأقراط.. لكن ما ستقوله تلك الشخصيات التي تلتقي على درجات سلم سكارْبا؛ ليس حواراً مسرحياً مكثفاً، وإنما تأملات تصل مرحلة الحكمة والفلسفة، من دون أن تنسى السخرية والتهكم في الكثير من تفاصيل ذلك البوح، ومن ثمّ فإنّ ما تقوله تلك الشخصيات الأربع ليس سجالاً، بل إنّ الشاعر يُعطي لكل شخصية حقها في البوح بحكايتها، ومن ثم لتكون مجمل تلك الحكايات أقرب إلى الشعر الملحمي.. تقول المرأة صاحبة الأقراط:
“تلك الأرواح التي تزور هذا السلّم،
تكون حاضرةً عند ولادة العالم”.
فيما ترد المرأة ذات الوجه المنمش:
“أولئك الأموات الذين زاروا هذا السلم،
إنما التقوا هنا مع سبب موتهم”.
وسكارْبا يُخاطب الجميع:
“الأموات الذين أكلوا عنباً
على هذا السلم؛
بصقوا النوى
بالقرب من النهر”.
هنا يصير السلم مكاناً للقاءات والتصادمات، التعارف والذكريات، مكاناً للحب والموت، تذكر “لـ نيفيلْسكايا” وهي مخرجة روسية وكاتبة سيناريو قدمت لديوان سكاربا: يصوغ داينكر في نسخته من السلم كرمزٍ للطريق، لوحة متعددة الأصوات، مُستخدماً من أجل ذلك تراكيب خاصة، وصوراً مُباغتة، مُقارنات وجدانية واستعارات باهرة ومدهشة، تنسفُ توقعات القارئ، إن الشعر عند داينكر مثل السباحة في نهرٍ جبليٍّ بارد: وخزات حادة من الوضوح، طراوة ذكريات وطاقة الوعي المتحرر من الرتابة والأنساق.. هنا السلّم مكان اللقاءات والتصادمات، مكان التعارف والذكريات، وهو أيضاً -حسب مقدمة الطبعة الروسية- مكانٌ للحب، والموت من منظور أربعة أبطال: المهندس المعماري سكارْبا، والمرأة ذات الوجه المُنمش، والمرأة صاحبة الأقراط، والمطرب الهندي، هنا حيث تتداعى حكاياتهم في لعبة النداء، والمُناداة كما لو أنهم رُباعي من تيارات الوعي المُتشابكة، والشاعر هنا على غرار مواطنه (يوهان هايزينغه) يُقدّم الإنسان اللعوب كبديل لثقافة الاستهلاك عديمة الروح..
“هذا السلم يُغني منذ الأزل،
هذا السلم؛ يُغني مثل البشر الذين لم يتعلموا الغناء،
هذا السلم يصدح مثل شجرة تكاد تكون بلا ظلّ،
هذا السلم يصدح مثل رحالة لا يبرح منزله أبداً”.
تذكر الأديبة أنيسة عبّود في تقديمها للنسخة العربية: (سلّم سكاربا)؛ ملحمة مُكتظة بالدلالات والدهشة، وبالمعاني الثّرة التي تحوّل تفاصيل المكان والبرهة المعيشة إلى فضاءٍ يتعرّج بين الماضي والحاضر والمستقبل.. لكأنه كُرة لا بداية لها ولا نهاية لشدّة الولع بالمنمنمات اليومية وبالمشاعر الإنسانية عبر لغة شفيفة حيناً وساخرة حيناً آخر.. وحتى يمسك الشاعر بسلّم أهوائه ورؤيته للعالم والكون؛ لابدّ من سلّم يصله بين الفوق والتحت، بين المرئي واللامرئي، بين الروح والجسد.. فكان سلّم سكاربا صلة الوصل بين ما هو محسوس، وبين اليومي والرؤيوي كرمز يستدعي إلى الذهن إلى اللانهاية وامتشاقه النجوم للوصول إلى علو السؤال بحثاً عن جواب الوجود والعدم.