الباحث «السواح»: على الباحثين التخلّي عن الصيغة الأكاديمية في مخاطبة القرّاء
كما توقعنا كان الحضور أكثر من سعة صالة د. سامي الدروبي في المركز الثقافي الذي غصّ بمحبي فكر الباحث في الميثولوجيا وعلم الأديان فراس السواح الذي أراد اللقاء معه ندوة حوارية منذ أن تواصلت معه الأديبة أميمة إبراهيم رئيسة المكتب الفرعي لاتحاد الكتّاب العرب في حمص لدعوته لهذا النشاط، فكان اللقاء بالتعاون مع المحافظة وبحضور السيد المحافظ.
شامل وجريء
رأى الباحث عطية مسوح مدير هذا اللقاء أن الحوار مع الباحث فراس السواح سيكون مميزاً وهو الذي أمضى خمسة عقود من الجهد الإبداعي البحثي المثمر أنتج خلالها عشرات الكتب تصب كلها في حقل واحد واسع لتصنع مشروعاً فكرياً لا يضاهيه في هذا الحقل أي مشروع ثقافي عربي حديث، وهو رائد في اقتحام هذا الحقل، وهو مشروع شامل وجريء، شامل في إطار حقله المعرفي وجريء في طريقة تناوله وغاياته.. إنه مشروع يتجه إلى العقل من خلال الأسطورة، يتجه إلى الحاضر من خلال قراءة الماضي يفكك ويعيد التركيب بتأويلات جديدة، كما تحدث مسوح عن الكتب التي أصدرها السواح منذ نصف قرن وحتى الآن، والتي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط الثقافية، فمنهم من أيدها وهم الأكثرية، ومنهم من عارضها، ولكن الجميع اتفق على أهميتها.
لكن جوهر مشروع السواح – والكلام لعطية مسوح- فكري إنساني بامتياز، فهو يرى الدين منذ بدايته ظاهرة مرتبطة بوعي الإنسان وتطلعاته، كما أنها مرتبطة بالواقع من خلال علاقته الجدلية بالوعي، وبالتاريخ أيضاً بوصفه سيرورة في الواقع والوعي المعيش. ففي مغامرة العقل الأولى يدرس السواح أساطير ما بين النهرين وسورية دراسة يصل من خلالها إلى أن ميثولوجيا ذلك الزمن وتلك المنطقة الخصبة مادياً وروحياً تعبّر عن رؤية الوعي الإنساني للعالم الموضوعي أو المتخيل أو الماورائي، يعود السواح حوالي 3000 عام ليربط القارئ المتبصر بين ذلك الوعي القديم وما بعده بألف عام وأكثر مستنتجاً أن مسيرة الوعي لم تنقطع وأن معتقدات الإنسان هي سلسلة تتواشج حلقاتها وتتكامل. وفي «لغز عشتار» حديث عن الألوهة المؤنثة وأصل الأسطورة، وفي كتاب «دين الإنسان» تفسير لماهية الدين ومنشأ الدافع الديني.
تنويري حداثي
وفي موضوع آخر قال مسوح: كل كتاب أو بحث فكري لفراس السواح يشكل إغناءً لمشروعه الفكري، والمفكر الحقيقي هو الذي يكون صاحب مشروع متكامل أو قريب من التكامل من دون أن يصل إلى نقطة نهائية. لقد ساهمت كتب السواح وتسهم في هز العقول التي اعتادت الثبات وتحريك الساكن الراكد وهذا فعل عقلاني تنويري حداثي ذو شأن. نأمل أن يكون حوار اليوم مفيداً وماتعاً.
بعد هذا التقديم العميق القابض على مفاصل المشروع البحثي والفكري المهم للسواح من قبل الباحث مسوح، شكره السواح ورحّب بالسيد محافظ حمص بسام بارسيك على حضوره، وقال مداعباً: «لعلها خطوة للمصالحة بين السياسة والثقافة». كما رحب برئيس اتحاد الكتّاب العرب د. محمد الحوراني الذي حضر من دمشق، ثم عقّب على كلام مسوح فأشار إلى أنه يحب الحوار، ويطرح أفكاره في كتبه ليتحاور حولها مع القراء، لأن ما يهمه أن يكسب ثقة القارئ من دون أن يتعالى عليه، وأن يوصل إليه الفكرة بأسلوب سهل، الذي هو ليس إيديولوجيا، بل أن يفتح له نوافذ وأن يحرضه على التفكير وأن يصل للنتائج بنفسه، ولذلك ليس في كتبه خاتمة، والكتاب الذي له خاتمة واحدة ليس كتاباً ناجحاً، فالخاتمة يضعها القارئ.
تعميق الأسئلة
الأسئلة التي طرحت من الحضور لم تتناول كثيراً ما كتبه الباحث السواح في العمق لكن إجابات الباحث السواح أعطاها عمقاً وأظهر من خلالها رؤيته الفكرية لبعض المسائل.
لكن وللمفارقة بدأت الأسئلة من أحد الباحثين الذي رأى أن لدى السواح إشكالية في مصطلح الميثولوجيا ولم يميز بينها وبين الأسطورة، وهي في اليونانية ترجمة لعبارة قصص القرآن، رغم تثمين هذا الباحث لكتاب السواح «الوجه الآخر للمسيح» فأوضح له السواح قائلاً: إن «ميث» تعني أسطورة، و«ميثولوجي» تعني البحث المخصص لدراسة الأسطورة، وأن للكلمة معنى آخر هو مجموع الأساطير التي أنتجتها ثقافة مجتمع معين، كأن نقول الميثولوجيا الكنعانية أو اليونانية أو الرافدية إلى آخره.
ثم سُئِل السواح من متسائل آخر عن المصادر التي اعتمدها في مقالته المنشورة مؤخراً في موقع «الناس نيوز» بعنوان «الأصل السوري لقريش»؟ وعدّها السائل صادمة، فأجاب السواح: لماذا هي نتيجة صادمة؟ نحن نعيد اكتشاف تاريخ شبه الجزيرة العربية وتاريخ العرب في بلاد الشام، ونعيد النظر في مصطلح الجاهلية، إذ لا وجود لهذا العصر، وثقافة الجزيرة العربية كانت ثقافة كتابية، ولدينا نقوش بلغات كثيرة، وكانت ثقافة الجزيرة على صلة بثقافة بلاد الشام، وثمة ديانات في تلك الفترة «المسيحية واليهودية». فلا توجد حدود جغرافية ولا ثقافية بين شبه الجزيرة العربية وبين الممالك التي كانت في بلاد الشام.
كما أشار إلى أنه في كل ثقافة، عصر التدوين يتأخر، كما في الثقافة السومرية، التي بدأت في 3000 ق.م، لكن التدوين في 2200 ق.م وهكذا، لكل الثقافات، ومصادري من هيئات ثقافية وعلمية في المملكة العربية السعودية، فثمة وثائق مكتشفة حديثة، كما اعتمدت على كتاب جواد علي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، وفي كتابه «العرب في الإسلام». وهو يقول إن قريش جاءت إلى شبه الجزيرة العربية من بلاد الشام.
علميٌ بمناهجه
أما لماذا لم يصل أغلب الباحثين للمتلقين؟ وفق من طرح السؤال، لم يرَ السواح صوابية هذه الفكرة، بل رأى أن بعضهم وصل وبعضهم الآخر لم يصل، وأنه شخصياً يلوم الذين عملوا بالفلسفة والمتفلسفين لأنهم عندما يكتبون يستخدمون أسلوباً يتجه لشريحتهم وليس عموم شرائح القرّاء، وفي نظره يجب على الباحث أن يكون أكاديمياً لكن يجب أن يخرج من الصيغة الأكاديمية في الكتابة أو مخاطبة القرّاء. وعند التساؤل حول علمية التأريخ، قال السواح إنه يتبنى كلام المؤرخة التونسية د. حياة مامو التي تقول: علم التاريخ علميٌ بمناهجه.. ظنيٌّ بنتائجه. وفي ضوء ذلك يعدّ السواح من لا يستخدم المنهج العلمي ليس مؤرخاً، وهذا ما دفعه لنقد د. كمال الصليبي في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» والصليبي مدرس في الجامعة الأميركية في بيروت. وحول سؤال ما المسؤول عن ميل الإنسان للتدين أو للدين؟ أجاب السواح بأنه ذكر في كتابه «دين الإنسان» الصادر 1993 أنه دافع من الدوافع الموجودة لدى النفس الإنسانية، وحاول عبر الكتاب أن يبرهن على ذلك، وبعد أكثر من 15 سنة اكتشف العلماء جينة هي التي تدفع الإنسان لأن يكون ميالاً للتدين. ورداً على سؤال ما الذي يمكن أن يوجّه به جيل الشباب؟ دعا إلى أن تتحرر عقولهم من الثوابت والمسلمات، ثم رأى السواح أن لا وجه شبه بين الحلاّج والسيد المسيح، لمن طالبه بعقد مقارنة بينهما، إذ إن صلب الحلاج لم ينتج «حلاجية»، في حين أن صلب يسوع أنتج حركة مسيحية. وفي ضوء ذلك لا وجه للشبه أبداً، كما سئل عن الأساطير الصينية إن كانت قد اهتمت ببدء الخلق وما بعد الموت، في ضوء اهتمام السواح بالثقافة الصينية وترجمة بعض كتبها وتدريسه في بكين لعشر سنوات.. قال: الصينيون لا يهتمون بالحياة الآخرة، لأن ثقافتهم ليست دينية، والمفكرون الصينيون لم يهتموا بالميتافيزيقا.
درع تكريمية
في نهاية الندوة شكر السيد المحافظ الباحث فراس السواح على حضوره وتمنى عليه إعادة اللقاء، ثم قدّم له د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب الذي حضر من دمشق درعاً تكريمية.