في رابعتها الشعرية.. طهران صارم والحزن الكثير (من ثرثرات الحنين)

“وأشعلُ شمعة..
لو يأتي من كلِّ جهات الكون بلا ذكرى..
لو يأتي بلا أسماء..
بلا حزن، وبلا عنوان؛
وأشربُ نخبَهُ مرةً تلو مرة..”
سنة 2012عزفت الشاعرة طهران صارم (لحن الغريب) الصادرة عن دار التكوين بدمشق، كأولى مجموعاتها الشعرية، وعلى (بيدر فواصل)؛ كانت تجربتها الثانية في إصدار المجموعات الشعرية، وهذه المرة عن دار بعل بدمشق أيضاً سنة 2013، ولم تنتظر صارم طويلاً حتى أصدرت المجموعة الشعرية الثالثة (على مرمى رصاصة) سنة 2015، وقبل أن تنتهي سنوات عقد الحرب على سورية بقليل أصدرت الشاعرة رابعتها الشعرية (من ثرثرات الحنين) هذه السنة.. والمجموعتان الأخيرتان صدرتا عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة..
بمعنى إنّ نتاج الشاعرة طهران صارم؛ جاء على إيقاع الحرب و”المقتلة” السورية، وكان في الكثير من مواجعه؛ رجع صدى لهذه الحرب، أو أنها كانت إحدى شواغلها.. من هنا ليس مُستغرباً أن يتلمسُ القارئ الكثير من ملامح وقع هذه الحرب التي لم تألف هذه الدنيا مثيل غدرها وكاريثتها، وتحالف سفالة الكون لتكون خلفها من داخل البلاد وخارجها.. هذه الملامح التي تتجلى في مُختلف التراكيب الشعرية، وشواغل الشاعرة، وأغراض النص الشعري.. وبما فيها التي تذهبُ صوب الذاتية الخالصة والمُسربلة بالحبّ على سبيل المثال.. وهو الأمر الذي برز منذُ أولى مجموعاتها الشعرية، وهو ما سيستمرُّ أيضاً، في تتالي مجموعاتها، وإن كان بملامح مُغايرة، وذلك حتى مشارف مجموعتها الأحدث (من ثرثرات الحنين)، وذلك أيضاً منذُ فواتح المجموعة، وأولى قصائدها.. تقول في قصيدة (منسيون):
“الذين يُزهرون على ضفاف الذاكرة..
الرجال الذين يُغلفون قلوبَ حبيباتهم بورقٍ لامع..
ثمَّ يرمونها في لُجّة الماء
كما يرمون الحصى..
أولئك الذين تُشغلهم الحروب،
وفي الليل يأكلون قلوبهم المطبوخة
على نار الحرمان..
(…)
أؤلئك الذين سيزهرون
غداً أو بعد غدٍ
زهوراً ملونةً على ضفاف المكان والزمان؛
أؤلئك المنسيون..”.
ومن يعش زمان الحرب؛ هو غير (المحظوظ) الذي يعيش أيام السلام والرخاء، فالحرب تُرخي بنتائجها حتى على الإبداع، لدرجة إنه يُمسي ملوناً بفواجعها، ذلك ما كانت آثار الحروب، منذ أول أداة استخدمت للقتل، وعلى ما يُروى كانت (فك حمار) استخدمه قابيل لقتل أخية هابيل حسب بعض الرويات الدينية، الحادثة التي ماتزال إلى اليوم تُرخي بملامحها في الكثير من مدونات الإبداع على تنوعها، كأولى الحروب التي أدّت نتائجها إلى الموت.. من هنا؛ فمن يعش زمان الحرب؛ لابدّ من أنّ حياته سيشوبها الكثير من النقصان دائماً.. حياة بالكاد تبلغ انتصافها، حياة تأتي دائماً كغصة في الحلق، أو كحامضٍ في البلعوم، حياة تُشبه الحياة وحسب.. ولأنّ الأمر بهذه الصياغة، فالساعة الآن ليست ستين دقيقة، ومن ثمّ الأيام التي تمر ينقصها الكثير من الليالي والنهارات، حتى قصائدنا؛ نكتبها بقليلٍ من المجاز؛ فقد بترهُ واقعٌ زرع كلّ حقول الخيال شوكاً وعليّق.. نخرج من براثنه مشوهي الأيدي ومُدمي الوجوه:
“أنا يا صديقي
أيامي كُلّها ينقصها
حرفُ عطفٍ أو فاصلة؛
وساعتي خمسون دقيقة،
وأيامي ينقصها ليلٌ أو نهار..
ولقائي يتيم..”
وهو الأمر الذي غالباً ما يُوقعنا في الارتباك، وربما في الالتباس أيضاً، حتى في مُفرداتنا التي نطلقها حيثُ تتساوى مفردتا (أحبك، وألعنك) بذات المواربة.. ذلك أنّ الحبّ نفسه قد يُصبح لعنة في الأزمنة الخربة، غير الصحيّة وغير الصحيحة:
“اليوم قررتُ أن أنساك
مرةً أخرى..
صنعتُ قهوتنا الصباحية، وعمداً أخفيتُ فنجانك..
مشيتُ في طرقات المدينة وحيدة من دونك..
زرتُ المقهى الذي تُحب، واستمعتُ إلى الأغاني التي تُحب
هكذا.. من دونك وحيدةً.. وحيدة،
وفي آخر النهار؛ كتبتُ لك رسالة:
لعنتك في أول السطر، وفي آخر السطر؛
كتبتُ أحبّك..”
في رابعتها الشعرية؛ يُمكن للمُتابع لنتاج الشاعرة طهران صارم؛ أن يستشفّ ملامح قاموسها الشعري، فقد أمست مُفردات بعينها، أو مُرادفاتٍ لها؛ تكون أشبه بالأساسات التي تبني عليها عمارتها وبنائها الشعري للقصيدة.. مُفردات مُفعمة بالغربة، والوحدة، والحزن.. وطهران صارم هي من الشعراء الذين ينتجون القصيدة الحزينة في (ضوء القمر)، والتي تبدو اليوم، وقد أمست (تياراً) واسعاً في ديوان الشعر السوري، لاسيما في جانبه النسوي ربما لأن خسارة النساء في الحرب أكثر حجماً، وذلك منذُ أن وقف محمد الماغوط وحيداً ومنعزلاً في (غرفة بملايين الجدران)، منذُ ذلك الزمن، وقف معه طابورٌ ضمن طائفة الذين (الفرح ليس مهنتهم)، وكان الناجون من هذه الطائفة من الندرة بمكان..

هذا الحزن الذي له بواعثه منذ سنين بعيدة، غير أن سنوات الحرب الأخيرة وسّعت في مجراه، وباعدت كثيراً بين ضفتيه، حتى أمسى كنهر لا يعرفُ نضوباً، أو يشهدُ جفافاً، وإنما أصبح غالباً ما يفيضُ عن الضفتين، ولا يملُّ يوسعُ في المجرى الطويل، فيما البحرُ الذي سيكونُ مصبه؛ قد صار بعيداً:
“ما خبّأته عيناك لم يكن بوحاً مؤجلاً،
ولا شعراً لطيفاً كنسمة تشرين؛
لكنه رثاءٌ طويلٌ لسنينٍ كُلها خريف،
ولأن القلوب التي تُحب كانت نائمة؛
لملمت جوانح الرّحيل،
امتطيت صهوة الوقت والليل،
وطويتُ الطريق..
لست ابن أمكَ ولا أبيك؛
أنت ابن حزنٍ لم يكتمل في دورته..”
نصوص الشاعرة طهران صارم؛ تنتمي في مُعظمها إلى الأدب الوجيز، بمعنى تنوّع الشاعرة في نصها الشعري بين الومضة، والتوقيعة، والشذرة، وحتى الومضة الحكائية التي تُحاكي أو تُقارب القصة القصيرة جداً، ومن هنا يُمكن تفسير هذا النسيج المُحبك للنص المُكثف، بحيث من الصعوبة بمكان اجتزاء بعض النص، وهذا ما لمسته حين إيجاد الشاهد لما نقول، إذ من الصعوبة اجتزاء النص، وأنت مُضطر للإيتان بالقصيدة بكاملها، وهذه من سمات الأدب الوجيز حيث النص الممسوك والمسبوك جيداً من العنوان وحتى النقطة في آخر السطر.. مُستفيدة من كل تقنيات الأنواع الأدبية الوجيزة، لاسيما في البلاغة المُضادة من إيحاء، ورموز، وانزياح، وإخفاء، وإضمار وغيرها..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار