«قمران يأكلهما الضوء»… تأملات زينب أيوب لامرأةٍ تقطفُ التوت الحامض للأيام الباردة

(المرأةُ التي تقطفُ التوتَ الحامضَ،
وتصنعُ منهُ مُربىً حُلواً للأيامِ الباردة؛
امرأةٌ
تعرفُ أنَّ الشتاءَ طويلٌ).

منذُ أولى دفقاتها الشعرية، في مجموعتها «قمران يأكلهما الضوء»، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب – وزارة الثقافة؛ تُرسلُ الشاعرة زينب أيوب رسالتها الخفية، وهي أقرب لوصيّةٍ نقدية، ورسالتها الخفية الموازية لنصها الشعري، أو ما يُمكن أن يتوهجَ به هذا النص.. ومفادُ هذه الرسالة؛ وهي أنك لتُنجِزَ قصيدةً، فلا داعي لأن تدخل غار الذهنية والتعقيد، ولا كهوف الميتافيزيقيا، وليس مطلوبٌ منكَ أن تُقيم المُعسكرات داخل قواميس اللغة الباردة لتُخرج ما قد تظنهُ ثميناً وجوهرياً وماساً، ثم تصرخ بدهشة العلماء المُكتشفين: (وجدتها.. وجدتها) لأنّ ما تحصّلت عليه ليس أكثر من مُستحاثاتٍ، ومُفرداتٍ لغوية أحفورية، لن تُقدّم من خلالها غير الخشب الشعري اليابس، ضمن قالبٍ لغوي يفتقرُ تماماً كما الأجسام إلى الدم الدافق والحار والمشاعر الدافئة..
في نصوص (قمران يأكلهما الضوء)؛ تقترحُ علينا زينب أيوب مناخاتٍ لغوية أكثر حميمية، وأكثر دفئاً يُمكن من خلالهما للقصيدة أن تنمو من دون خوف صقيعٍ، أو ليلةٍ ثلجية عاصفة، تماماً كمن يُداري محصوله بالزراعة المحمية الحديثة، ولأجلِ هذه الغاية، تدعونا الشاعرة للتمتع بالجمال الكامن بداخلنا، وبما حولنا، وبما يُحيط بنا من عناصر ومُفردات سواء كان ذلك في لغةٍ حارة مُعاشة، أو في عناصر الطبيعة.. إذاً؛ فلماذا تجشمِ عناء وعثاء السفر إلى (وادي عبقر) المُخيف والمُتصحر، وانتظار (منيّة) شياطينه لبناء القصيدة الجذلى التي لا تُغني من جمال، فيما السواقي والجداول والأشجار، وغروب الشمس وشروقها، وكذلك تنويعات السفوح اللونية، والتي جميعها تُقدمُ الحقول الواسعة لأشجار الخيال والتخييل الباسقات، وكلها تُلمس بيقين الأصابع وشغاف القلوب، ويُمكنُ للشاعر من خلالها أن يبني عمارته الشعرية، تماماً كفنانٍ تشكيلي عتيق من مدرسةٍ انطباعيةٍ عريقة؛ لا يملُّ يُغيرُ ألوانه على بياض اللوحة حسب عطاءات الضوء وكرم الشمس..
(أفتحُ شباكيَّ الأزرق؛
ليتسللَ ضوءُ الصباحِ إليِّ،
وأحاول تعبئةَ خيطٍ رفيعٍ في ثقبِ إبرة؛
النّدباتُ تحتاجُ خياطةً كلَّ يوم،
كي لا يُصيبها اتساعٌ مُفاجئ،
فتخرجُ كُلّكَ عن السيطرة،
وتصبحُ (بساطاً)..!

(قمران يأكلهما الضوء)؛ مجموعة نصوصٍ؛ تغلب عليها مسحة من التأمل الواسعة، وتنشغلُ بالهمّ الإنساني بشكلٍ عام، والتي ترى في صرف هموم الإنسان بأن يفتحَ قلبه لنسائم المحبة والحب. نصوصٌ تسردها الشاعرةُ – في مُعظمها – متوجهةً فيها لضميرِ المُخاطب (أنت)، وكأنها تبوحُ بنثرها الشعري لقارئٍ – مستمعٍ بعينه، تكادُ تخصّه وحده دون سواه؛ هو (أنت) الذي يقرأ هذا النص الآن وهنا.. تبوحُ له بكلِّ هذه الجوانيات التي يشعر بها مستمعها – قارئها، وكأنها خلاصة تجربةٍ طويلة في التخويض في متاهات هذه الدنيا.. نصوصٌ؛ هي أقرب لاستنتاجات في الحياة الواسعة، تقترحُ خلالها الكثير من الصياغات الأخرى لفنون العيش غير التقليدية، وغير ما درجت عليه مسيرة الكثير من دورات هذا الكون، وهذا العالم .. اقتراحات تبنيها الشاعرةُ بصياغة تساؤلات، وبهذه النجوى الطويلة عسى ثمة مُستمع هو (أنت- نحن، وهم، وكلنا)؛ أليس الشعرُ همّاً شخصياً، لكنه يهمّ الآخرين؟! وربما حينها تكون الحياة أو قد تتجلى وتبدو بأجمل..
فماذا لو كانَ باستطاعتنا المجيءُ إلى الحياة بغير طريقة
كانسلاخنا (مثلاً) عن لحاء
شجرة جوز؛
لكنّا حظينا بفرصةِ أن تحبَّنا السناجب..
ثمّ ماذا
(لو كانَ باستطاعتنا الرحيلُ من الحياة
بغيرِ طريقةٍ أيضاً؛
نُسافرُ.. كغُبارِ طلعٍ بغيرِ تطلُّعٍ
على أيِّ زهرٍ سنحيا،
أو بأيِّ عاصفةٍ نموت) ..

إذاً؛ بهذه اللغة الناعسة، والعذبة، التي لا عنتريات فيها لأحفورات المفردات الجذلى، تولفُ الشاعرة تراكيبها الشعرية بهدوء النُسّاكِ والمتصوفين، وبلغةٍ لا تقعّر فيها، ولا تبجح، وإنما اللغة التي هي برائحة حبق النوافذ وزعتر السفوح، اللغة التي لها لون و رائحة، تماماً كقهوة الصباحات.. وإذا ما أخذنا عنوان المجموعة، باعتبار العنوان؛ هو العتبةِ الأولى لـ(مكتوبٍ) يُفترض ألّا يُقرأ من عنوانه، وإنما يأتي العنوان تماماً كنقاط علام، وكإشارات لبلاغة مُعينة، ومقصودة ستأتي لاحقاً؛ فكان (قمران يأكلهما الضّوء)، وبلوحة غلاف على خلفيةٍ من رمادي وبني في تناوب لـ(ظلين)، فيهما الكثير من ملامح وسريالية سلفادور دالي، واللذين يأتيان كإيقاعٍ بعيد لحديث النجوى، بين الساردة والأنت، الأنت الذي يكون – ربما- ظل الأنا نفسها.. وهو هنا عنوان غيرُ مُعتاد كثيراً إذ جاء على شكل (جملةٍ فعلية)، وقد اعتادَ الشعراء والكثير من الكُتّاب غيرهم على العناوين التي تأخذ سمة الجملة الاسمية.. هنا ثمة جملة فعلية؛ قدمت من خلال تركيبها (المفعول به – القمران) – لأول الجملة، ربما لكتفيهما شرَّ النصب، فيما أخّرت (الفاعل- الضوء) لآخر الجملة، وربما لتُبعد عنه الصورة غير المُستحبة لفعل (الأكل)، وهي في كل هذه (اللعبة) اللغوية، لتُنشئ من خلالها بما يوحي بالسرد، والحكاية، ذلك أن جُل النصوص، استعارت لها الشاعرة ثوب الحكاية، حتى لا أقول القصة القصيرة، ومن نافل القول اليوم؛ إن من سمات النص الشعري الحديث، ميله لسرد الحكاية، ودائماً ثمة (حدث) يُروى.. فلو قالت الجملة كما اعتيادات الترتيب: (يأكل الضوءُ قمرين).. لتبخرت الحالة الشعرية من التركيب تماماً، ولجاءت الحالة صادمة، وربما احتاجت إلى بعض المُفردات الأخرى لاكتمال وإتمام الجملة، غير أن لعبتها في التقديم والتأخير منحت الجملة الكثير من جماليات البلاغة المُضادة، وهي غير البلاغة التقليدية من تشبيه، وكناية، واستعارة وغيرها.. البلاغة المُضادة هنا تمثلت إضافةً لما ذكرنا من تقديم وتأخير، إلى جملة من الجماليات الأخرى كالإخفاء، والإيحاء، والرمز، والدعوة للتأمل.. والأخير – التأمل – الذي سيكون من شواغل النص الشعري عند زينب أيوب، أو قل إنه شكّل الملاءة التي كانت من خلالها توّشي بها نوافذ القصيدة، القائمة بمعظمها على التفكير والتأمل حتى لا أقول على (التفلسف).. فرغم أنّ مُفردة (الأكل) ليست مُفردة شعرية، غير أنّ تركيبها بين مُفردتين شاعريتين، خلصّها من حالتها (الهضمية) المُعتادة لأمرٍ آخر، وهو هنا ثمة (قمران).. ربما هما أنا وأنت، أو (أنا وأنا)، وكان تقديم المفعول به – كما أسلفنا – لتُزيح عنه فعل الأكل، وأنابت عنه بديلاً بضمير مُتصل في محل نصب مفعول به، فيما الضوء – الفاعل يأتي بعيداً وقصيّاً في جملة العنوان، وكأنها تُبرّئه من إثم الفعل في رحلةٍ شاعرية على ضوء قمرين..
(تعالَ.. هاتِ يديكَ
نستمتع بهذا الصُّبحِ أيضاً،
ونؤجل الموتَ،
وتحضيرات القيامة لنهارٍ آخر)..

تبني زينب أيوب قولها الشعري؛ بلغةٍ دافئة، تنقلُ من خلالها مشاهد من أزمنة مُختلفة لعلّ أبرزها المشاهد الأولى والبعيدة لطفلة تتعرف على الأشياء من حولها، وتستمعُ بألوانها، أو بمشاهد المواجهات الأولى لطفلةٍ بما يُحيطُ بها من مفردات وعناصر وأشياء، وعلاقات قد تنشأ فيما بينها؛ كلها شكلت سرديات شعرية للمخيلة التي لا تملُّ تُعيدها بحميمية النستالوجيا، حيث تأتي كدفقات ذاكرية مُفعمة بدفء الحكاية.. هنا ثمة مشاهد لليلٍ وأقمار، ونوراس ، وموسيقا.. وكلُّ ما سبق كانت له مساحته الملونة الذي يأخذ طابع (الهايكو) بتصوير ذاكرة طفلةٍ يُشتتها (لونٌ وتجمعها دهشة).. وكلُّ ذلك بصياغات لونية تشكيلية مُتساءلةً؛ لماذا الخوف من جعل اللغة خيوطاً لحياكة تراكيب ملونة، وعرضها للمارة، هذا الخوف الذي تُحذّرُ منها الشاعرة، لأنه:
(الدودة التي تقضمُ
أيَّ جذرٍ ما لم يكن جذراً قويّاً
يتوقُ إلى الحياة..
الخوف يجعلُ
من الطعامِ طعاماً مُفتقراً للنكهة،
ومن الجسد جسداً مُرتبكاً في انحناءاته،
ومن الأدبِ أدباً
رديئاً خاوياً من الرّوح)..
ذلك أنّ طرد الخوف، يعني المواجهة مع كلّ احتمالات الحياة ومُسلحاً المرء بالكثير من قصائد الحب المُفعمة بالندى والزهر.. هنا لا علم للشاعرة: (ماذا ينتظرُ امرأةً مُتمردةً واثقةً) مثلها (ربما قصة حُبٍّ أخرى، من يدري؟!).. وعند ذلك ربما تشتهي الشاعرة (الكتابةَ عن الحبّ اليوم) كما تشتهي (حبات الزعرور البرية) رغم أنّ الوقت (ضيقٌ والقلبُ صنوبرة..) ..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار