أسئلة في مشهد التباس القراءات النقدية للحركة التشكيلية
ثمة التباس لا يُخفى لأي مُتابع للمشهد التشكيلي السوري؛ ولعلّ من ملامح هذا الالتباس تبرز في أكثر من سؤال، أو في مجموعة من الأسئلة منها: لماذا لم تستطع الحركة التشكيلية المُعاصرة والتي أصبح عمرها اليوم ما يُقارب المئة سنة؛ أن توجد نُقادّها القادرين على قراءتها بما يليق بها من مواكبة ورصد انعطافاتها.. ولماذا بقي نتاج هذه الحركة أسير الصالات، ولم يُمسِ ثقافة جماهيرية أو شعبية، ثم هل استطاع النقد صيانة الهوية التشكيلية السـورية وتحديد ملامحها؟، وماذا كان دور النقد في بلورة قيمها الجمالية والفكرية، وهل يتوفر في الساحة التشكيلية السورية نقاد مختصون يقيّمون نتاجاتها الإبداعية ويجيبون عن أسئلتها الثقافية – الفلسفية المُلحة عن حاضرها ومستقبلها..؟!!
وكما هو معروف؛ فإنّ أول شرط يتطلبه النقد التشكيلي، هو تحليل وقراءة الفنون البصرية بلغتها، والمعرفة بعالم الألوان، من حيث هي علامات، لكلِّ منها طابعِ مكاني مُميز.. وهو أيضاً الإدراك المعرفي لشخصيات هذه الألوان التي تشكّل عالم اللوحة – المنحوتة، وموضوعها، ولا تقل عن ذلك أهمية الآثار الانفعالية أو العضوية التي تختلقها الألوان، وهذا هو نفسه الأمر الذي ينطبق على لعبة الظل والضوء والكتلة والفراغ.. فاللون عنصرٌ بارز في العمل التشكيلي وفي لغته، وبلاغته، والعامل المسيطر على الاستجابة الانفعالية للتصوير، وهو الذي يؤكد سلبية أو إيجابية التركيب الموضوعي والفني للعمل التشكيلي.. وما يعطي هذا الشرط أهميته القصوى في نظر النقد العلمي، للإبداع التشكيلي؛ ذلك الوهم الذي تخلقه اللغة والمرتبط بالاعتقاد أن الجمال صفة في الأشياء، وليس في صفات استجابتنا لهذه الأشياء، وتلك هي العلة الأساسية لصعوبة تذوق اللوحة عند العديد من المتلقين، وفي مقدمتهم النقاد.
اتجاهات الفنانين
إذا تركنا هذا الجانب التقني الصرف الذي يفرض نفسه على أي ناقدٍ تشكيلي، واتجهنا إلى صلب العمل الفني؛ سنجد أنّ العديد من نقادنا غير التقنيين، استطاعوا تحت تأثير الوضع الثقافي الراهن، أن يخلقوا بديلاً لهذه التقنية التشكيلية، ويربطوا «قراءاتهم» بحركة الوعي الفكري للغة البصرية، وهو ما أدى إلى خلط كبير في المفاهيم، وإلى خلط بين الأشكال والمضامين، وهكذا تكون أزمة النقد عندنا في ميدان الفنون التشكيلية؛ أزمة بنيوية مرتبطة بمشكلات عامة، ولها علاقة وثيقة بتطورها الثقافي والفكري.
وكما نلاحظ اليوم، فإن مفهوم الفن تطور تطوراً سريعاً في العقود الأخيرة، ولم ينقطع أو يقف عند حدّ، إذ لم يكن في وسع أي ناقد أن يقدم تعريفاً شاملاً لماهية الفن ولاتجاهات الفنانين.. وكان مفهوم الفن في سورية يقتصر دائماً على الفنون التقليدية.. وكما أمسى معروفاً اليوم؛ إنه عندما انتقلت الحضارة في العصور الحديثة إلى أوروبا، تغير مفهومها للفن، وأصبح يقتصر على نوعٍ معين منه، وهو النوع الذي ابتدعته عبقرية الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، ومع إن فن عصر النهضة في أوروبا يختلف في الواقع اختلافاً جوهرياً عن واقع ومفهوم الفن عندنا، كما أنّ الوهم الشائع بين مؤرخي الفن ونقاده قد فرض على العالم البحث عن تعريفٍ جديد للفن يتسع لاحتضان كل التراث التشكيلي، باتجاهاته ومدارسه.. كما انصرف الكثير من النقاد العالميين إلى السعي في تعريف الفن من جديد، وإلى البحث عن قيم نوعية لكلّ أنواع الفنون قديمة كانت أم حديثة.
من هنا يبرز السؤال: كيف يمكن أن يقوم نقد فني موضوعي في مثل هذه الظروف التي تعددت فيها المفاهيم، وأصبح خلالها الفنان الأصيل في حيرة من عالمه، ومن إنتاجه، ومن مفاهيمه؟.. الواقع أن مهمة الناقد اليوم لم تعد بالأمر الهيّن، فقد يكون من اليسير أن يُفاضل الناقد بين اتجاهين أو عدة اتجاهات، ولكنه لا يستطيع مطلقاً المفاضلة بين الأساليب والمدارس المختلفة والمتطورة والمتجددة.
غياب عن الاتجاهات الأربعة
وهذه الصعوبة في المفاضلة والتقييم والحكم ليست جديدة؛ بل يرجع عهدها إلى عصر النهضة في أوروبا، إلا أنها ستكون أكثر خطورة عندنا، ولاسيما أن مجمل نقادنا لم تمكنهم ظروفهم الثقافية من الوقوف على الآثار الفنية الإنسانية بمدارسها واتجاهاتها وأساليبها، ليتمكنوا من المقارنة والتقييم والحكم، فالناقد فضلاً عن وجوب معرفته لعالم الفنون التشكيلية معرفة كاملة وواعية، عليه أن يشترك مع الفنان الحديث في وجدانه المعاصر، وهذا الوجدان لا ينعكس على الفن فقط، ولكنه ينعكس أيضاً على الأدب والشعر والفلسفة، ومن ثم أصبح وعيه لكل التراث الثقافي ضرورة حتمية.
من هذه الزاوية، نجد أن التطور الذي تعيشه فنوننا التشكيلية يوماً بعد آخر والانفتاح الذي تعرفه على أوروبا وعلى العالم، بعيد عما ينشر عندنا من نقد لهذه الفنون، فناقدنا – إلا ما ندر- لم يحترف بعد حرفة النقد، ومن ثم لم يعطِ لنفسه الفرصة ليطلع على عالم الفنون، وعلى ما يزخر به هذا العالم من أشكالٍ، وألوانٍ ومدارس واتجاهات، وهو ما يتطلب منه وقتاً كبيراً للهضم والاستيعاب، ومن ثم فالعديد من «النقاد» لدينا، مازالوا، يحاولون نقل الأشكال المبعثرة إلى كلمات «مضببة»، غالباً ما تكون بعيدة عن المضامين وعن الأشكال، وإذا استعرضنا (التقييمات) النقدية التي كتبت عن الفن التشكيلي العربي والسوري على وجه الخصوص خلال العقود الأخيرة، سنجد خلطاً في مفهوم النقد أولاً، كما سنجد رؤى مختلفة للمدارس والاتجاهات والأفكار، الأمر الذي يشوه حقيقة النقد الفني، ويضيع حقيقة مسارات الحركة التشكيلية في سورية وانعطافاتها.
هنا السؤال
وهنا يتبادر السؤال: هل تتوازى مسارات الحركة التشكيلية السورية مع المواكبة النقدية لها؟! وبصيغة أخرى هل تتساوى القيمة الإبداعية لهذه الحركة وانتقالاتها الفنية نوعاً وكماً مع ما يكتب عنها وما يتابعها من قراءات نقدية، أكاديمية أو انطباعية، تستكشف أنساقها وترصد محطاتها باختلاف أساليبها وأدواتها وقواعدها؟! في حقيقة الأمر، إن من يُحاول تلمس طريق البحث عن إجابات محددة، يجد نفسه بداية أمام «شبه» فراغ توثيقي يطول جانبي المعادلة، سواء من حيث مكونها الإبداعي أو حدها القرائي، حيث إن تجارب الفنان التشكيلي السوري، غالباً ما تنتهي بانتهاء معارضه وتنقضي بانقضائها، تأليف «يلغي آنيتها ويبني متتالياتها وفق مسار».. وبتقديري تبقى القراءة العامة للتجربة التشكيلية السورية، غارقة في الاستعصاء، ومحوطة بإبهامات، وفي متاهة في التلمس وغارقة في المفاهيم تعيش الشتات هنا وهناك، كما تبقى الكتابات التي عنيت بالأمر بعيدة كل البعد عن مرحلة تأسيس يواكب الحركة ويدوّن مسارها.. وفي باب الكتابة والمتابعة «المناسباتية»، يرى المُتابع، تدخل عدة اعتبارات وعوامل تجردها من القيمة النقدية الحقيقية ومستوى المتابعة المساهمة بفعالية في الارتقاء بهذا الفن الجميل المغدق بالأحاسيس المرهفة، إذ نجد (الانطباعية) هي السمة الطاغية إن لم نقل هي القاسم المشترك بين أغلب ما يصدر بالصفحات الفنية والثقافية وفي مختلف الوسائل الإعلامية من مقالات وتغطيات ومتابعات لمعارض تشكيلية تبدو بعمومية تشمل مكونات المعارض وليست قراءة لتجربة مبنية على فضاءات مُحددة, لذلك تبقى الكتابات المتفرقة عن موضوع التشكيل في سورية في رأي العديد من الباحثين، مقالات تقديمية أو انطباعية أو تغطيات صحفية، تُقرب التشكيل وتقترب منه ولا تقرأه، كما لا ترصد حركته، والمسألة بموضوعية وتجرد لا تدخل في صميم مهمة الصحفي مادام الاختصاص فيه لا يتضمن الجانب التشكيلي، كما لا نجد الفنان التشكيلي نفسه يواكب مختلف التجارب التشكيلية، ويداوم الرصد والمتابعة عبر الكتابات النقدية التي يملك هو بداية الأمر موادها الموضوعية، ومكوناتها الفنية كما عناصرها الإبداعية.