المتذوّق مبدعٌ أيضاً!
ثمة علاقة جدلية بين التذوق الجمالي، والإبداع، إذ حين ينشط الإبداع يُرافقه عهدٌ من نشاط التذوق، وحين ينشط الإحساس الجمالي و يتنامى التذوق، يُلاحظ بزوغ صياغات فنية على درجة كبيرة من الروعة والإدهاش.
والخبراء بدراسة الجماليات؛ طالما أكدوا على عناصر في عملية التذوق الجمالي، وهي تتكون من: الرسالة الفنية، ذلك حين يُقدمها صاحبها للآخرين مفهومة وقابلة للإدراك، وذات قيمة.. وهناك العمل الفني: وهو رسالة موجهة من الأنا المبدعة إلى الأنا المتلقية بقصد التوصل إلى التوحيد بينهما في حالة نفسية واحدة، فيما تطرح العملية الفنية من أولها إلى آخرها شيئاً جديداً تُثير لدى المتلقي تساؤلات، وتنبههُ إلى واقعٍ نفسي كان يُلازمه ولا يُدركه، وقد يُعيد بناء خبراته ليصل إلى عالمٍ جديد.
إنّ المبدع هنا، يُحاول – على ما يرى الناقد التشكيلي راتب الغوثاني – كسب المتلقي إلى صفه، لا بالمباشرة والبرهنة؛ بل بإعادة الخلق للواقع دون التسليم به، والنظر إليه من زاوية وبرؤية جديدتين .. فيما يكون المتذوق: مبدعاً، أو هو قريب من المبدع، ليس مجازاً، بل إبداع حقيقي، لكنه داخلي، وإنجازه هنا، هو نوع من تعميق رصيد الخبرة عنده، وهنا بالتأكيد، يختلف الأمر بين متذوقٍ وآخر، وبين مبدعٍ وآخر، وقدرته على التأثير في المتلقي المتذوق، وبين عملٍ فني وآخر، وأيضاً الحالة النفسية للمتذوق، ومكان عرض هذا المنجز الإبداعي.
يشترط الدكتور الغوثاني هنا أن يحقق العمل الفني اللذة الجمالية، وماهية هذه اللذة؛ هي التي تصحب تذوقنا للعمل الفني، وتتوافر بذورها في خبرات الحياة العادية، ذلك أن الخبرة التي تمضي إلى الإشباع يصحبها شعورٌ بالرضا إلى درجة النشوة الجمالية..
هنا حيث الأساس النفسي للخبرة الجمالية، أي للتذوق، يملك أربعة جوانب: الجانب الذهني: بما يتضمنه من استعدادات عقلية، وعمليات ذهنية، والجانب الوجداني: بما يتضمنه من دوافع وخصائص انفعالية، وقيم واتجاهات، والجانب الجمالي: بما يحتويه من الاستعدادات الجمالية والعمليات الفنية، وحب الاستطلاع والميل للاكتشاف، وإيقاع مزاجي يتميز به الفرد عن غيره، وهناك أيضاً الجانب الاجتماعي الذي يتمثّل بالتيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية والوضع الاقتصادي، و.. بعض هذه الجوانب ذات مكونات ولاديّة، أي يولد الإنسان بها، ويمكن أن تنمو أو أن تعوّق، فتقف وتتضاءل، وتتدهور، و.. غير ذلك.
من هنا، فالتذوق الجمالي؛ هو عملية إبداع حقيقي، وخلق إبداعي، وهو يمر بمراحل المبدع نفسها، والتي هي: الاستعداد، الاختيار، الإشراق، التحقق، أو التنفيذ.. أي يُعيد المتذوق بناء العمل الفني مرةً أخرى من خلال السير بالدرب نفسه الذي سار عليه الفنان المبدع.