هل يحتاج الشاعرُ «جمهوراً»؟.. وماذا عن «عتبة بيتي» و«الكاتب الذي لا أحد يعرف جنسيته»؟!
كثيراً ما يُردد هذا القول عن لسان الفيلسوف والروائي الفرنسي جان بول سارتر (1905- 1980): «الآخرون هم الجحيم»؛ فيما ثمة مقولة أخرى تكاد تُناقضها تماماً؛ و تروى عن لسان نظيره الفيلسوف والأديب الألماني «يوهان فولفغانغ فون غوته» (1749-1832): ليس ثمة عقاب أقسى على المرء؛ من أن يعيش في الجنة بمفرده.
لكن هل حقاً تبدو المقولاتان مُتناقضتين؟! ومتى يكون الآخر جحيماً على ما يراه سارتر، ومتى يكون هذا الآخر فردوساً؟ لا أدري كيف فهمت المقولتين على أنهما أشبه بالمتكاملتين، برغم ما يبدو بينهما من تناقضٍ واضح، أو هما – على الأقل – مقولتان صحيحتان، ولكن حسب ظروفٍ كثيرة, فالآخر جحيماً عندما يُريد إقصاءك لأنك تختلف عنه، إقصاء يصل في بعض الأحيان لحدود التصفية، وهو قد يكون نعيماً عندما يُكملك وإن اختلفت معه، بل ربما كان يكمن في الاختلاف إتمام النواقص لكليكما, لكن بالنسبة للشاعر، أو المبدع بشكلٍ عام؛ فهل يحتاج لمن يُكمله، ومن ثمّ متى يكون هذا الآخر بالنسبة له جحيماً، أو جنةً؟!.
بين قولين
ربما أجاب عن هذا السؤال منذ زمن أمسى اليوم بعيداً الأديب اللبناني المتعدد النتاجات الأدبية «بول شاول»؛ عندما صرّح في حالة نزق بما معناه: «أنا لا أريدُ قارئاً، يجب أن نحمي الإبداع من براثن القراء، ربما يكفي أن يُشاهد اللوحة مُتلقياً واحداً، أو قد لا تحتاج القصيدة لأكثر من قارئ», في الحقيقة كان تصريح شاول مطولاً، وهو يصبُّ جام غضبه على المتلقي الذي أقل ما وصفه به، إنه قارئٌ أرعن ومتوحش، ويجب أن نحمي الإبداع من همجيته! وهنا أتفهم جيداً مقولات شاول، كما أعرف جيداً ذلك القارئ المعني بكلامه, وهنا ربما يُفيد أن نذكر مقولتين أخريين لكاتبين آخرين قد ينحلُّ معهما هذا الالتباس؛ فثمة ناقد، قال ذات حينٍ جملةً ومضى، وصارت بحكم القول المأثور؛ وهي أنه: «كلما نضج الأديب؛ أصبح من الصعوبة أن يعرف الجميع جنسيته»؛ أما الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف؛ فعُرف عنه جملته الأشهر: «العالم يبتدئ من عند عتبة بيتي»؛ والجملتان، أو القولان الشهيران؛ كان على «القوم» أن يرددانهما مئات المرات، حيناً على أن لا تناقض بين محلية الكاتب وعالميته، وطوراً على أنهما على طرفي نقيض.. من الزاوية الضيقة، يبدو القولان أنهما على طرفي نقيض، لكن في العمق؛ هما بكل تأكيد على انسجام تام, ذلك أن المشكلة ليست في تفسير القولين، ولا في شرحهما، وإنما في ماهية الأدب، والإبداع بشكلٍ عام، وهنا نعود لمسألة التجربة الشخصية للمبدع؛ هل هي كافية لإنتاج إبداعٍ إنساني؟!.
يتنوّع الإبداع في مسألة القيام بإنجازه، فبعض أنواع الإبداع، ولاسيما الكتابية منها؛ لا تحتاج إلا لكاتب أو مبدع واحد لإنجازها، إلا ما ندر في بعض الكتب والروايات المشتركة، والتي غالباً كان نصيبها عدم النجاح، إن لم نقل الفشل، بينما بعض أنواع الإبداع الأخرى تحتاج جهد فريق لإنجازها بالشكل الذي يليق بها، ولاسيما في الفنون البصرية، وهي غير الفنون التشكيلية التي تحتاج بدورها مبدعاً واحداً لإنجازها، ما أقصده؛ فنون الدراما التلفزيونية، والمسرحية، والسينمائية، وإن كان يقود ذلك الفريق شخص واحد؛ هو المخرج.
بذرة الشجرة
برغم كل ما تقدم؛ فإن الفكرة الأولى التي ستكون بذرة الشجرة الإبداعية؛ هي لشخص واحد، ومن ثمّ، تناول هذه الفكرة التي ستكون نتيجة احتكاك بشكلٍ صادم بين المبدع الفرد والواقع، سواء كان اصطداماً مفرحاً، أو دراماتيكياً، وهو غالباً من النوع الثاني، بمعنى؛ كثيراً ما تكون التراجيديا؛ هي المولدة للإبداع، وليس الملهاة، حتى إن ثمة من يرى في الملهاة نفسها؛ شيئاً من التراجيديا.
ما أريد أن أصل إليه؛ هو أن الإبداع شأن ذاتي، لكنه يهم الآخرين كثيراً، وما يهم الآخرين، فذلك الأمر يُمكن التوسع بالحديث بشأنه، وقد يطول، لكن قبل الحديث بهذا الأمر، أذكّر أن الذاتي غير الشخصي، وإذا ما وقع الإبداع في الشخصي، فلا يعد يهم غير شخص كاتبه، ومن هنا نستطيع اليوم أن نجد معياراً مهماً لجودة الكتابة ولاسيما التي تنتشر على مدى مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بحق هي «السلطة الخامسة» كما يحب اليوم الكثيرون أن يطلقوا عليها ذلك, وهي ما مدى معيار الشخصي والذاتي فيها، هل هي رسائل شخصية، أم رسائل إنسانية؟!.
وبرغم أن ثمة من يقول: إن «الشاعر الحقيقي هو من يشعر بالمسؤولية تجاه مجمل القضايا، وعليه أن يكون جزءاً منها, ومعبّراً عن حاجات مجتمعه وقضاياه الإنسانية في الحرية والسياسة والجمال والفن والحب من خلال رؤيته الإبداعية كواحد من هذا المجتمع شاهراً هويته الدالة على انتمائه، وإلا أصبح شاعراً في العراء لا يجيد الكتابة إلا باتجاه شخصه، كحالة نقّ فردية تضجر الجميع إلا هو»، لكن ثمة من يُخالف هذا الرأي أيضاً، وهو أن على الشاعر أن يتخفف من هذه الرسولية التي أتته ذات حينٍ من عصر القبيلة،
ويكفيه أن تعرفه حبيبته وجارته اليوم؟, حتى وإنْ كتب شعراً شخصياً، لأن الشعر بشكل عام مهما كان ذاتياً؛ فهو يهم الجميع!.
الإبداع المنتمي
عندما توجهت بسؤال كهذا لصديقنا الشاعر محمد عيسى أجاب: إن الشاعر المنتمي؛ لا يمكن فصله عن قضايا مجتمعه, أنا لا أقول عليه أن يصدر بيانات، ولكن بالتأكيد عليه أن يكون صاحب وجدان وإحساس متحرك, فإن لم يتأثر بواقعه لن يستطيع أن يؤثر على حبيبته، ومسألة الرسولية هذه كان المقصود منها للدلالة على انتمائه القبلي وليس بمعنى النبوءة، وأعتقد أن الشاعر يجب أن يكون كذلك، أي رسول مجتمعه، وهذا ما نسميه بلغة الآن: «الهوية الشعرية»، محمود درويش، نزار قباني، بابلو نيرودا، لوركا، هل أصبح هؤلاء شعراء لأنهم لم يهتموا بقضايا مجتمعاتهم؟!.
معظم الشعر الدارج الآن هو شعر شخصي وليس ذاتياً، نعم الشعر منطلقه ذات الشاعر وليس شخصه، فالذات هنا هي الذات المنتمية إلى المشترك الوجداني كنسيج معرفي ثقافي مهيأ جمالياً بالمعنى الأدبي، عندها يشعر المتلقي أن له نصيباً في هذا النص، شرايينه تمتد إليه، أما الشعر الشخصي، فهو شيء آخر، يأتي معزولاً عن هذا المشترك، وهذا شأن لا يهم المتلقي، للأسف معظم الشعر الذي يطرح الآن هو من هذه الشاكلة، هذا إذا سميناه شعراً.
عتبات البيوت
بقي أن أشير إلى مسألة «عتبة بيتي» التي يبدأ منها العالم، وربما قد ينتهي بها، ومن أمثلة تلك العتبات؛ نجاح المبدعين المقيمين في أوروبا والغرب بشكلٍ عام القادمين من العالم العربي، والإفريقي، وغيرهما من عوالم؛ فقد نجح هؤلاء المبدعون في تلك الأمكنة التي من الصعوبة أن يجد المرء طريق النجاح فيها، لكنهم نجحوا بما تزودوا به من «عتبات بيوتهم» ألم يقل أدونيس: لقد اكتشفت المتنبي في فرنسا, وكذلك أبو نواس وغيرهم، وهو بتلك الذخيرة المحلية أصبح من الأصوات العالمية الأعلى والأجمل في العالم.
وأختم بـ:
عندما
تحتفظ بأسرارك ثقيلةً؛
توهن روحك..
عندما
تتكسر أحلامك على صخور الطموح،
عندما
تُعاني
مشاعرك الوحدة، ولا تتقاسمها
مع أحد؛
عندها فقط
تكون قد هرمت.!