3 كتب ثمرة تعاون بين الباحث السواح و د. شيويه تشينغ قوه
“استفدت كثيراً وتعلمت من التعاون مع الأستاذ فراس السواح لأنه شخصية ثقافية مرموقة، وثمة تعاون بيننا علمي وهو رمز لصداقة دائمة لنا، وخصوصاً بالنسبة لي”. بتلك الكلمات أنهى د. شيويه تشينغ قوه كلامه عن الباحث في الأنثروبولوجيا وعلم الأديان فراس السواح، وذلك في ختام حديثه عنه عبر الفضائية الصينية CGTN الناطقة بالعربية، وكان قد اعتبره في مستهل حديثه شخصية ثقافية مهمة جداً والقرّاء العرب يعرفونه جيداً.
رحلة تشاور
ومدعاة اللقاء كما قالت مقدمة برنامج الحوار ” تشن شي” دخول ثلاثة كتب إلى سوق الكتب الصينية، باللغتين الصينية والعربية. وهذا ما دعاها لاستضافة د. شيويه أستاذ بكلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، لتسليط الضوء على هذا المشروع، وكيف تشكلت خطط ترجمة تلك الكتب، فأشار د. شيويه : صحيح أن الكتب هي ثلاثة، لكن في الحقيقة إن كتاب “التاو” لمؤلفه “لاو تسو” يرجع تنفيذه إلى عام 2009 وهو أيضاً ثمرة تعاون سابق بيننا. لكن الكتابين الآخرين للمعلم الأول كونوفوشيوس، وللمعلم الثاني تلميذه منشيوس، هما ثمرة تعاون خمس سنوات من العمل بيننا عندما كان الباحث السواح يعمل أستاذاً زائراً في جامعتنا. وانطلقنا في إنجاز هذا المشروع بعد أن حصلنا على دعم نشر وترجمة أمهات الكتب في الفكر الصيني. فصدر الكتابان ومعهما كتاب “التاو” مرة أخرى. أمّا كيفية اختيار مثل هذه الكتب لترجمتها وشرحها ونشرها إلى اللغة الصينية الحديثة، فيقول د. شيويه: نختار أنا والأستاذ فراس من بين مئات الكتب التي ترجمت وهي كتب معروفة في الأوساط العلمية، نختار أهمها، ونضع أمامنا معاً ما هو مناسب منها ونقوم بالتشاور، وبعد أن يترجم الأستاذ فراس من الإنكليزية أقارن ما هو موجود في الصينية، ونبدأ رحلة التشاور والحوار والاختيار والتعديل جملة جملة، بحيث يبدي كل منا رأيه لنصل لأقرب ترجمة إلى التعبير الصيني الأصلي، رغم أن الأستاذ فراس أحياناً يعترض لأن الجملة يجدها غير مناسبة للقارئ العربي. فنعود للاختلاف إلى أن نصل في النهاية إلى التوافق بعد تقريب وجهات نظرنا، مع بعض التنازل من كلينا.
فتنة حكمة “الزن”
ونشير إلى أن هذا الاهتمام من الفضائية الصينية بصدور تلك الكتب وحديث د. شيويه دفعنا للتواصل مع الباحث فراس السواح لمعرفة بدايات اهتمامه بثقافة الشرق الأقصى، فقال: اهتمامي بها ابتدأ خلال أيام الدراسة الجامعية عندما فتنتني “حكمة الزن” اليابانية ورحت أقرأ ما تيسر لي بالإنكليزية عن فلسفة الحياة هذه. ثم تبين لي أن “الزن” ليس يابانياً بل صيني استوردته اليابان مع ما استوردت من مظاهر ثقافتها، فاتجهت إلى الثقافة الصينية واطلعت على حكمة “الشان” التي انتقلت إلى اليابان تحت مسمى “الزن”، وهي مزيج من البوذية والفلسفة التاوية التي قامت على تعاليم الفيلسوف الأول لاو تسو (أو لاو تسي) في كتابه “التاو تي تشينغ”، الذي وجدته أهم كتاب في فلسفة الحياة عبر العصور. وقد قادني هذا أخيراً إلى تأليف كتاب عن التاوية ومعلمها صدر عام 1998، ويتألف من مقدمة عن فكر الصين، ونص عربي لكتاب “التاو تي تشينغ” اعتمدت فيه على أربع ترجمات إنكليزية للنص، وبعد ذلك شروحات مستفيضة على المتن استغرقت نصف عدد صفحات الكتاب.
ثلاثة مناهج
وعن أول تواصل مع أحد المثقفين الصينيين ورحلة التعاون الثقافي، يقول السواح: في عام 2006 اتصل بي المستعرب الصيني “شويه تشينغ قوه” ذاته الذي شاهدتم اللقاء التلفزيوني معه، والذي ترجم عدداً من المؤلفات العربية إلى الصينية بينها بعض أعمال أدونيس، وقال لي إنه حصل على كتابي خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق وأعجب به، وأعرب عن رغبته في المساعدة على إصدار طبعة له في الصين بعد قيامه بتدقيق متن النص على الأصل الصيني. وهكذا ابتدأ عملنا عن طريق المراسلة وزيارة أخرى قام بها إلى دمشق وزيارة لي إلى بكين عام 2008 وصدر الكتاب عام 2009 وهو يتألف من مقدمة أعدها أستاذ في جامعة بكين ثم متن النص الصيني فمتن النص العربي فشروحاتي على المتن التي لم يتدخل بها زميلي. وفي عام 2012 كان الدكتور شيويه قد عين عميداً لكلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بكين للدراسات الأجنبية، فاتصل بي وعرض علي العمل كأستاذ في الكلية. وهكذا أنفقت سبع سنين في إعداد وتدريس ثلاثة مناهج في الثقافة العربية لطلاب الليسانس والدراسات العليا. وقد قدمت لي هذه الإقامة في بكين، ومكتبة الجامعة الغنية فرصة ذهبية لمتابعة اهتمامي ودراستي للفكر الصيني، فأنتجت كتاباً تحت عنوان “فصول من الفلسفة الصينية” صدر في دمشق عام 2018، و تعاونت مع الدكتور شيويه على ترجمة كتابين أساسيين في الفلسفة الصينية هما كتاب الحوار لكونفوشيوس و كتاباً آخر لتلميذه منشيوس.
وقد صدر الكتابان مع كتاب لاوتسو القديم في سبتمبر 2021 في طبعة واحدة من ثلاثة مجلدات، يحتوي كل منها على النص الصيني في صفحة وترجمته في الصفحة المقابلة، مع شروحات وتعليقات على النص، للأخذ بيد القارئ. وقد توّج هذا المشروع، مسيرتي في دراسة و تقديم فكر الصين إلى القارئ العربي.
ثلاثة مراحل
وبالعودة إلى مراحل العمل يخبرنا الباحث السواح عنها قائلاً: سار العمل على ثلاثة مراحل. 1ـ في المرحلة الأولى قمت بإعداد نص عربي لكل كتاب صيني اعتماداً على عدة ترجمات إنكليزية معتمدة لباحثين غربيين وزودته بالتعليقات على المتن للأخذ بيد القارئ الجديد على الفكر الصيني. 2ـ في المرحلة الثانية قام الدكتور شويه بقراءة نصي ومقارنته مع الأصل الصيني، وتدوين ملاحظاته واقتراحاته. 3ـ في المرحلة الثالثة كنا نجلس ثلاث مرات في الأسبوع لتبادل الأفكار حول ملاحظاته واقتراحاته ، وكانت المرحلة الأصعب لكثرة ما دار بيننا من نقاش وجدل. وقد تحدث زميلي عن هذه المرحلة باستفاضة في مقابلته التلفزيونية.
البشر أخيار بطبعهم
وحتى يأخذ القارئ عموماً فكرة عن الكتب الثلاثة التي صدرت نشير إلى أن “كونفوشيوس” هو أول فيلسوف صيني يفلح في إقامة مذهب يتضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي. ففلسفته قائمة على القيم الأخلاقية الشخصية وعلى أن تكون هناك حكومة تخدم الشعب تطبيقاً لمثل أخلاقي أعلى. ولقد كانت تعاليمه وفلسفته ذات تأثير عميق في الفكر والحياة الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية.
أمّا “منشيوس” فهو فيلسوف صيني كونفوشي، غالباً ما وصِف بأنه “الحكيم الثاني” بعد المعلم الأول كونفوشيوس. عاش على الأرجح في حقبة الممالك المتحاربة، ويُقال إنه أمضى معظم حياته مسافراً في أرجاء الصين لتقديم المشورة لغير ما حاكم. تشكّل حواراته مع الحكّام أساس الكتاب المنسوب إليه، منشيوس، والذي خُلِّد فيما بعد كأهمّ الأدبيّات الكلاسيكيّة للكونفوشيّة. يتلخّص أحد أهم معتقدات منشيوس في أنّ البشر أخيار بطبعهم، وأنّ هذه المزيّة تستلزم الرعاية والبيئة الصالحة لكي تزدهر. وكان من تعاليمه أنه على الحكّام أن يكونوا على قدر مسؤولية مناصبهم من خلال الإحسان إلى رعاياهم، وفي هذا المعنى يكون الحكّام في خدمة المواطنين، لا العكس.
موقف وسلوك
وكتاب ” التاو” يتضمن فكر “لاو تسو” هذا الحكيم الصيني الذي كان يرى أن فن الحياة هو أشبه بفن الملاحة لا بفن القتال. في فن الملاحة يدير الرُبّان شراعه إلى الريح ويوجّه معرفته للإفادة منها لا لمقاومتها، وبذلك يغدو فعله جزءاً من النظام الطبيعي للأشياء لا مستقلاً عنها ولا معارضاً لها. وعن مفهوم ” التاو” يوضح الباحث السواح “إن الفرق شاسع بين مهمة العلم ومهمة الحكمة. فبينما يهدف العلم إلى معرفة ممَّ يتكون العالم وكيف يعمل، فإن الحكمة تهدف إلى معرفة كيف نستطيع العيش في هذا العالم. المعرفة العلمية مكتفية بذاتها. والعِرفان الحكموي يؤدي إلى موقف وإلى سلوك. وهذا ما يتضمنه المعنى اللغوي لكلمة “التاو”. فـ”التاو” في اللغة الصينية تعني الطريق، ولكن ليس بالمعنى الضيق المحدود الذي يرى في الطريق خطاً يصل بين مكانين محددين، وإنما بالمعنى الشمولي الذي يدل على جوهر صيرورة عمليات الكون والطبيعة. إنه الطريق الخفي الذي تطرقه كل حركة في تناوبها، وكل سلوك إنساني في سعيه للتناغم مع منبه الحقيقة.