في المُلتقى الحادي عشر للقصة القصيرة جداً .. 4 فازوا بجائزة دمشق لأفضل المجموعات القصصية!

(استنصاف:
في المحاولة الأخيرة؛ نجحنا موزعينَ الغلال بيننا، اعترضَ كبيرُنا، ذبحنا أصغرنا… فوق رُكامه يتعالى صوتُها: “فلهنّ الثُّمنُ مما تركتم”). “مرح صالح – مجموعة زوايا”… هنا في النص؛ حيث تجتمعُ الكلمات لتنطق جملةً واحدة، تملأُ الأمكنة المُعتقة بالمحبة والشوق، إبداعاً وحكايا ليست بالحكايا، رواياتٍ ليست بالرواية، بل أساطير تنفتحُ على حافة السطر.
إنها ومضة من العقل – كما يراها
د. ياسين صبيح رئيس رابطة القصة القصيرة جداً في سورية – ومضة تُحاكي آلام ومسارات الظلم والفرح، وسيرة حياتنا، إنها القصة القصيرة جداً، تلك التي اجتمع حولها محبّوها في ملتقاها الحادي عشر في المركز الثقافي بأبي رمانة بدمشق، والذي خُصص هذه المرة لتكريم الفائزين بجائزة دمشق لأفضل مجموعة قصص قصيرة جداً.
الجائزة تُنظمها رابطة القصة القصيرة جداً في سورية، وتدعمها وترعاها “دار دلمون الجديدة”، لاسيما بطباعة وإصدار المجموعات الفائزة، والتي كان عددها أربع مجموعات لأربعة فائزين في دورتها الأولى. وفاز فيها كل من: مرح صالح من سورية في المرتبة الأولى عن مجموعتها (زوايا)، وحسام الساحلي من سورية أيضاً في المرتبة الثانية عن مجموعته (ساحر)، فيما ذهبت المرتبة الثالثة مناصفة للقاصين: هاني أبو غليون من الأردن عن مجموعته (ركام الصمت)، وفتحي بوصيدة من تونس عن مجموعته (زمن يبحث عن أيام).

(ساحرٌ: أدخلني صندوقه المُظلم، أخرجني من أذنيّ أرنباً، صفّق الجمهور.. ضحكتُ حتى الثمالة.. قبل أن تفترسني أسودُ السيرك.”…(حُسام الساحلي- مجموعة ساحر).

وفي القراءة النقدية؛ تذكر الناقدة راوية زاهر عن (زوايا) المجموعة التي نالت المرتبة الأولى، والتي شارفت على المئة نص لكاتبة ضربت لنا موعداً مع التاريخ والأساطير، مع أول مُشرعي القوانين وخطوط القياس، مع ربات الجمال والخصب، مع أبطال الروايات اليونانية الغارقة في الميثولوجيا والنستالوجيا، مع عشق وطن لم ينقطع حبله السري الموصول بالروح والذاكرة بالحاضر وتفاصيل الحياة والموت؛ إذ تنوعت القصص فأوقعتنا أسارى قضاياه المعلقة ووجعه المسفوح.
(زوايا) تراها الناقدة عنواناً موفقاً لنصوصٍ كفيلة بحشر قرائها في زوايا البحث والتقصي، فالكم الهائل من التناص والتضمين لابدّ أن يؤتي أكله. ففي القصص تركيز على الحكائية التاريخية، وقد برز فيها ضرورة القبض على الأفكار و”سركنتها” لتوقعنا النهايات في خنادق الرؤوس المقطوعة أو الأجساد المولودة دون رأس، وذلك كوقوف ممنهج أمام حالة الرفض لأي فكر يُغير من جينات الواقع القائم على شنق الأفكار في لجة الرؤوس. فقد برزت هذه الحالة المتكررة في نصوص عدة من قبيل (مترولوجيا، سريرة، إباحة، عرائس).
(ميترولوجيا:
حين ثقل رأسي، وضعوه على الميزان، قهقهت ريشة الحقيقة؛ اعترض “هايزنبرغ” بينما “عمعموت” يلتهم أفكاري.) هنا وضعتنا الكاتبة أمام عنوان تتحدث فيه عن علم القياس، ونسبة الخطأ المترتبة على هذه العملية، فأخضعت بذلك الأفكار التي اجتاحت الرأس وأثقلته للقياس بدقة ليتهكم العالم الفيزيائي هايزنبرغ متيمناً بمبدئه وهو عدم التأكد، لتقود الحيرة كل شظايا العقل ويبدأ (عمعموت) مهمته في أكل الموتى .. حيث بات الرأس ينضح ببقايا جثثها من أفكار وغيرها. وأما نصوص الكاتبة الغارقة بالأسطورة؛ فيستوقفنا استخدامها الكبير لتقنية التناص وتحيل بذلك نصوصها إلى نصوص أخرى لها عبرة ورمزية باذخة تخدم نصها، وقد بلغ التناص ذروته في نصوص (إباحة، ضهي، تباك، سوسيولوجيا، عواقب) إذ أحالنا نص عواقب إلى قصص الأنبياء، وغار حراء وقوم عاد ونوح. وقد وفّقت الكاتبة كثيراً في استخدام هذه التقنية، فأخذتنا إلى تلك اللعبة المطاطية مع التاريخ والنص الديني الموضوع والمنقول.
وُسمت نصوص المجموعة بالحكائية والجرأة والتكثيف وعمق المعنى وتلونت بتقنيات الإضمار والتناص الفاخر بأفكار متجددة.
فيما ترى زاهر في مجموعة (ساحر) الفائزة في المرتبة الثانية للقاص حسام الساحلي؛ التي ضمت ثمانية وسبعين نصاً، حيث العتبة النصية الأولى للمجموعة والتي يجب على القارئ تخطيها، إذ تعتبر هذه العنونة ذات وظيفة تأويلية تقودنا إلى الحدث، عنوان مبهر – بتقديرها – استحق أن تحمل المجموعة اسمه، وبين ما تركه السحر على مساحة النصوص وشظايا المرايا المتناثرة التي ثملت بها عاكسة لحالة نفسية متوزعة الحطام في كل زاوية من زوايا النصوص، ومنبئة بحدس تراجيدي سيهيمن على كامل المجموعة. فالشعور بالتشيؤ والانسحاق والخوف والتفاهة أحياناً قد أرخى بظلاله على الحروف والأحداث واللغة.

وعلى وقع السوداوية والواقع العذابي سُبكت الأحداث من حالة الحرب ومفرزاتها، والفساد والحالات الاجتماعية من عقوق أبناء ودور عجزة متوارثة كنتيجة طبيعة للفساد الاجتماعي والأخلاقي وتفكك المجتمع. فالمجموعة حقل لغوي ثري بالصور التراجيدية المتعلقة بالشأن العام استوطن فيه الخوف ذاتَ الكاتب، مؤدية إلى حالة التغييب والموت في نهايات الفجيعة للنصوص.
امتازت النصوص بعفويتها وتكثيفها وإيماءاتها، إذ استطاعت أن تروي ظمأ القارئ من خلال قوله شيئاً وتركه لما هو أهم منه قيد التلميح والترميز وتحريك الفضول الساكن أكثر من تقديم الأجوبة. فالنصوص بأغلبيتها صغيرة الحجم نسبياً، وجلّها لم يتجاوز بضعة أسطر برزت فيها الحكائية التي تعتبر الملمح الأساس للقصّ القصير جداً، أضف لتكثيف الأحداث، ولا تخلو النصوص في الكثير منها من تقنية التناص. وبدت في نصوص كثيرة (كرؤيا) وإحالة النص إلى سيدنا يوسف ورؤيته وإخوته…
كما يستوقفنا في نصوص المجموعة كثافة حالة المرايا وشظاياها وتناثرها وتكسرها وما حملته من بعد جمالي ورمزية عاكسة للحالة الانكسارية للذات (حلاقة، عبور، الوجه الآخر، موناليزا ملامح تغيير).
(الصوت والصدى:
كبرنا معاً، تشابهنا في حب الوطن، واختلفنا في الآراء، ثم التقينا بعد غياب في حرب الفتنة كالأعداء. كنت مع الوطن، كان مع الغرباء، لوّحت له بمنديل الطفولة؛ فبكت بين ذراعية البندقية قبل أن تقتلني رصاصة فيها عطر صديقي الذي لا أنساه.)

وأما المجموعة الفائزة بالمركز الثالث للكاتب التونسي فتحي بوصيدة تحت عنوان (زمن يبحث عن أيام)، فتراها زاهر أنها مجموعة تميزت بتنوعها ودخولها الدهاليز المجتمعية بقوة وبجرأة خاصة، ما بين حرب ورصاص وانفجارات وقضايا تخص الوطن كجغرافيا وهوية وحروب، وما بين قضايا المجتمع الموضوعة كما كل العالم العربي على طاولة الاهتمام.
توّزعت القصص، بين حكايا الأزواج والمهور والخطايا، بين العاقر والأم الفاقدة والمفقودة والمنتظرة، ووجع المخيمات وسطوة الانفجارات، قضايا الفقر والعوز والغدر والنفاق الديني. كما سَرَحت قصص الكاتب وسَاحت محدثة صدمة في كل نهاية، وبحكائيات تثير ذائقة المتلقي، متنوعة أدواته بين تضمين ورمزٍ وتناصٍ، بلغة أقل ما يُقال عنها إنها ثرّة وباذخة.
(فاتحة:
في مقبرة أفكاره، بحث عن ضريح القصيدة الأخيرة؛ لم يجد عليها آخر زهرة سقاها بحبر اللوعة والأسى، مدّ يده ومسح التراب من الرخامة، لم يبقَ مما كتب سوى (إنا لله وإنا إليه راجعون)… تلا الفاتحة على روحها، ثم أخذ القلم.)

أما الفائز الثاني مناصفة بالمركز الثالث فكانت من نصيب الكاتب الأردني هاني أبو غليون… تحت عنوان (ركام الصمت) بسبع وثمانين قصة. فالصمت هو ذاك الذهول التام أمام الصدمات، وبعينٍ ترمد أمام الحزن، وقلب يخفق بحضرة الوجع، فكيف إن كان الحزن تلالاً وتحت مواقده ركام الصمت تتعالى.
عند التجول بين أزقة نصوص هذه المجموعة وجدنا أن للرمز حضوره المترف متمثلاً بالظل الذي لا تكاد تخلو ورقة من ورقات الكتاب بكامل نصوصه من ذكره وقوفاً عند دلالته، فلحضوره في الفنون والصور والأشياء جمالياته، وإحالاته؛ فهو حقل واسع جداً وظلال النفوس والأشياء والكائنات لا تنتهي ولا تموت، بل كونه رمزيّاً يحمّل الظل فكرة البقاء والخلود عند إحالته إلى أي شخصية مهما علا أو قلّ شأنها. وقد ظهرت اللفظة (الظل) جلية في الكثير من نصوص المجموعة من قبيل: (تماهي، ضباب، أثافي، كسور، ولادة، ثرثرة، ركام،..) والقائمة تطول.
(كسور:
الفزاعة التي حرضّت الغربان على استباحة سنابل حقلنا، في موسم الحصاد؛ قاسمتنا ما تبقى من حنطته، باعت حصتنا لجرذان المستودع، وحده ظلي وقف أمامها محتجاً، مازالت أمعاؤه تتلوى جوعاً.)
النص غنيّ بالرمزية، فكل لفظ يُحيلنا إلى معنى آخر، والظل في نهايته حمل رمزية جمالية خاصة، فالظل هنا عمل ما كان يجب على الشخصية الأم القيام به وليس هو.. ولكن لسطوة القائمين بقي للظل وحده هامش الحركة. كما تحيلنا أيضاً نصوص أبو غليون إلى التناص بتقنياته الجميلة، إذ يحملنا الكاتب إلى نصوص أخرى ذات أبعاد وحضور باذخ في الفكر الجمعي؛ فبرزت قصص قادتنا إلى شهرزاد وأخرى إلى ربة الخصب عشتار، وأيضاً لـ”سيزيف” وصخرته الحضور الأبهى ما يعطي نصوص الكاتب حكائية، وبعداً جمالياً ومعنوياً رائعاً.

وأخيراً نختم ببعض ما تحدث به الدكتور محمد ياسين صبيح رئيس رابطة القصة القصيرة جداً في سورية بقوله: أعتقد أنّ هذه المُسابقة سوف تصبح مناسبة سنوية مُهمة لرواد القصة القصيرة جداً، والغايةُ أن يُحقق هذا النوع الأدبي تطوراً نوعياً في الإبداعات التي سُتقدم، وفي التركيز على أحقية هذا الجنس الأدبي المُندفع في الريادة الأدبية. الذي يُحاكي عصر السرعة، من خلال سرعة الإدهاش وجرعة التأمل التي يُقدمها دون الغوص في التفاصيل المملة.

تصوير: صالح علوان

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار