د. باسم جبور: «نصوص الحكمة في الشرق القديم» سجلٌ للأفكار الفلسفية والقيم الإنسانية!
كانت شائقة بما سلطت عليه الضوء محاضرةُ د. باسم جبور: «من نصوص الحكمة في الشرق القديم»، مشاركاً لأول مرة في نشاط اتحاد الكتّاب العرب في حمص، فوجدت صدىً طيباً لدى الحضور. والمحاضر د. جبور متخصص في اللغات السامية «الأكادية والآرامية والسريانية والفينيقية والعبرية».
وقد أشار في مستهل محاضرته إلى أن نصوص الحكمة في الشرق القديم جاءت بعد أن انصرف الكتّاب الأولون من الكهّان الذين كان لهم الدور الأكبر في ابتداع الكتابة إلى تدوين التراث الشعبي المتناقل شفوياً لسنوات طويلة، فبدأت المدارس الرافدية السومرية تأخذ دورها الرائد فكثر طلابها، وتعددت أساليبها، وتطورت مناهجها ما أدى بشكل مباشر إلى نشوء الأدب الرافدي الذي بات سفراً للمشاعر الروحية وسجلاً للأفكار الفلسفية والقيم الإنسانية التي دونت معتقدات الإنسان ونظرته إلى الآلهة والكون وبطولاته وكل تفاصيل حياته ومجتمعه.
كما أشار إلى أن تلك النصوص مستقاة من قضايا فكرية وفلسفية شغلت بال الإنسان الرافدي زمناً طويلاً، وهي في نتيجتها عصارة التجارب الحياتية، وخلاصة بحث دؤوب عن الحقيقة وماهية الوجود البشري، وما هي إلاّ تساؤلات كبرى حول الخلق وعلاقة الإنسان بالإله وصراع الثنائيات المتضادة المتنافرة كالحياة والموت والخير والشر والثواب والعقاب والإنجاب والعقم والخصب والقحط وغيرها من أسئلة فلسفية شكلت مادة حكمية غايتها بسط المواعظ وإسداء العبر التي ما زلنا إلى يومنا هذا نحفظها ونرددها ونعلّمها لأبنائنا.
وتوقف المحاضر مع الحكيم « أدابا» وهو أول من نطق الحكمة في تعاليمه إذ يقول في وصاياه إلى ملوك الأقاليم والتي تعود إلى القرن العشرين ق.م: (أكرِمْ أسلافك، وأكرِمْ إلهك، دافع عن الضعفاء، وأقِمْ العدلَ، كُنْ صادقاً مع نفسك وحارب الشر، وتجنب الإسراف في عيشك).
أما مَنْ هو « أدابا» فيقول المحاضر: هو الصياد الذي كسر ريح الجنوب عندما كانت مركبه تغرق حين كان يصطاد، فأراد كبير الآلهة «آن» معاقبتَه طالباً منه المثول أمامه، عندها طلب «إنكي» الإله السومري (سيّد الأرض) من «أدابا» ألا يأكل أو يشرب في حضرة «آن» لئلّا يخسر الخلود، ولما مثل «أدابا» بين يدي «آن»، دار بينهما حوار طويل فأبدى إعجابه بحكمة «أدابا»، فأحبه وأراد أن يمنحه الخلود بطعام وشراب، إلا أن الحكيم «أدابا» نزولاً عند نصيحة إلهه رفض الطعام والشراب وخسر الخلود.
ويشير المحاضر إلى أن القصة تشبهها إلى حد بعيد قصة آدم التوراتية فكلاهما خسر الخلود، الأول لطاعة إلهه، والثاني لعصيان أوامر إلهه, ثم أشار المحاضر جبور إلى أن بعض نصوص الحكمة كانت تأتي على شكل مناظرات بين الحيوانات أو النباتات أو الجماد، فتدور بين طرفين يسعى كل منهما لإظهار حجته وتقديم برهانه، وبيان فضله وتفوقه والحط من قيمة الطرف الآخر, ومن أشهر المناظرات: (الثور والحصان، الثعلب والذئب، العصفور والسمكة، الشوفان والحنطة).
ومن النماذج التي تعد من بواكير نصوص أدب الحكمة قصة بعنوان: (لدلول بيل نيميقي) وتعني في الأكدية: “لأمجدنَّ ربَّ الحكمة” والمقصود برب الحكمة هو الإله مردوك، وهذه القصة تشبهها في الإطار العام قصة أيّوب التوراتية، ويطلق عليها الدارسون اسم قصة أيوب البابلي, تضم ما يقارب 480 سطراً في أربعة رُقم، وتعود إلى النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، وهي قصة رجل اسمه «شبشي ميشري شكّان»، وهو شريف في قومه احتل وظائف مهمة عند الملك، وكانت له ثروة طائلة وعبيد وممتلكات، وكان يحترم الآلهة ويقيم الصلاة، ويحسن إلى الناس إلى أنْ ساءت حالتُه، وأحاط به الشرُّ من كل مكان وابتعد عنه أصحابه، وتركته الآلهة وحيداً من دون معين فاشتد غضب الملك عليه وأقصاه عن عمله وحاك الطامعون ضده المؤامرات حتى صار غريباً بين أهله ومعدوماً لدرجة المذلة على يد عبيده.
ومن النصوص المتأخرة نسبياً نص بعنوان (حوار العبد وسيده) مكتوب باللغة البابلية ويعود إلى نحو 1000 ق.م. وهو حوارية لا تخلو من هزل وسخرية في قالب حكمي لحوار بين سيد وعبده يأمر فيه السيد عبده بعمل شيء ما، وسرعان ما نجد العبد يجيب بالموافقة والطاعة، ثم ما يلبث أن يعود السيد ليغيّر رأيه، فيجيب العبد بالسمع والطاعة أيضاً, أمّا آخر نص توقف معه المحاضر فهو نص الحكيم (أحيقار) الذي كان مستشاراً في بلاط الملكين الآشوريين (سنحاريب) وابنه (أسرحدون) في القرن السابع ق.م ويتألف النص من ثلاث عشرة صفحة، ويروي قصة الكاتب المستشار (أحيقار) الذي كان حكيماً ذا مال وفير ومعرفة ورأي وتدبير، لكنه كان عقيماً برغم زواجه من ستين امرأة، وذهابه إلى العرّافين والمنجمين وتقديمه الأضاحي والقرابين, إلى أن جاءه صوت الإله وأشار عليه أن يتبنّى ابن أخته (نادان) وقد كان رضيعاً، فأخذه ورباه واعتنى بأمره وعلّمه الحكمة.
ولكن (نادان) عندما شبّ عن الطوق أصبح ولداً عاقاً ووشى بـ(أحيقار) مربّيه ومعلّمه ووليّ نعمته عند الملك ليحتلّ مكانته الرفيعة ويرثه في حياته.
ومما جاء في النص: يا بني، لا تبح بكل ما تسمع، ولا تقل شيئاً عن كل ما ترى, يا بني: نقل الحجارة مع رجل حكيم خيرٌ من احتساء الخمر مع الجاهل, يا بني: إنّ عين الإنسان كنبع ماء لا تشبع حتى تمتلئ بالتراب, يا بني: شاة قريبة خيرٌ من بقرة بعيدة، وعصفور بيدك خير من ألف طائر, يا بني: لا تكثر من زيارة صديقك لئلا يملَّك فيكرهك, وعلى هذا المنوال أنهى د. باسم جبور محاضرته بالقول يا بني: لا تطل محاضرتك لئلا يمل الحضور منك فينصرفوا عنك.