عجز الإبداع لأن يُقارب ما حدث .. فهل يكون الفيلم الوثائقي الحل ولو مرحلياً؟!
الذين، أرّخوا للسينما، يؤكدون أن بداياتها كانت تسجيلية، أو وثائقية، تحديداً، وذلك منذ صوّر الأخوان الفرنسيان (لوميير) خروج عُمّال من المصنع وصبياً يلتهمُ تفاحةً، وذلك في يوم (22) آذار من سنة 1895م، أي ما يُقارب من عقد ونصف العقد على ميلاد السينما.. حيث وبعد حوالى العقدين صوّر من يعدونه رائد السينما التوثيقية في العالم العربي محمد بيومي، عودة الزعيم سعد زغلول إلى مصر بعد نفيه، وفي سورية، ثمة لايزال – ربما- من يتذكر “الجريدة الناطقة”، التي كانت تبث قضايا توثيقية قبل عروض الأفلام الروائية في الصالات السينمائية..
ورغم هذه البواكير التسجيلية، ستمرُّ عقودٌ طويلة لا ينظر إلى هذه النوعية من الأفلام أكثر من “ممسحة المعبد”، حسب وصف من أوقف تقريباً كامل تجربته السينمائية سورياً لها، وأقصد المخرج عمر أميرالاي، هذا المخرج الذي خصّ السينما في سورية بأكثر من فيلمٍ وثائقي، وأظن أن فيلمه عن الفنان التشكيلي الراحل فاتح المُدرس سيبقى أيقونة الأفلام الوثائقية السورية.. لكن لطالما بقيت هذه الأفلام – الوثائقية – سينما نكرة وثانوية في المشهد السينمائي العربي العام بشكلٍ عام، وأقرب ما تكون لامتحان أول لإثبات الموهبة، ومرحلة انتقالية للمخرجين صوب الأفلام الروائية الطويلة..!
محنة الوثائقي
مأساة الأفلام الوثائقية، يُشخصّها اللبناني محمد سويد، في أنها تعاني في العالم العربي من حصارها بعدم وجود القنوات، والصالات، المتخصصة بها، ورغم هذا الحصار، والنظرة الدونية لها؛ ثمة من راهن على هذه السينما عربياً، نذكر منهم في سورية، الراحل محمد قارصلي، وكنا ذكرنا عمر أميرالاي، وفي لبنان؛ برهان علوية الذي رحل عن دنيانا مؤخراً، وميشيل خلفيي، وجان شمعون، و.. غيرهم، الذين حاولوا تصحيح النظرة، والمفاهيم الخاطئة عن الفيلم الوثائقي، وأعطوه الكثير من الشاعرية، والرؤية الذاتية، وفي الغرب؛ هناك من ارتفع بهذه الأفلام، إلى مصافّ مخرجي الأفلام الروائية الطويلة، هذا إن لم يتجاوزها، وهنا لابدّ من ذكر المخرج الأمريكي الشهير (مايكل مور)، الذي أحرج بجرأة أفلامه الوثائقية السياسة الأمريكية، زمن إدارة الرئيس الأمريكي السيئ الذكر جورج بوش الابن وبما يشبه الفضيحة..
التلفزيون الموثق
و.. الطريف، أنه في العالم العربي، كان الفضل في انتشار الأفلام الوثائقية، يعود إلى التلفزيون، وإن كان من جهةٍ أخرى أساء لها عندما كرسها كـ(بروباغندا) لبعض الحكومات والأحزاب العربية، رغم ذلك؛ ثمة من يراهن اليوم على “طفرة” الفضائيات العربية، التي توجه بعضها لملء بعض ساعات بثها، من الأفلام الوثائقية، و.. تمّ تخصيص محطات بالكامل لعرض الأفلام الوثائقية، وإن كانت لاتزال من الندرة بمكان، إضافةَ إلى أن الكثير من المحطات العربية، أو الناطقة بالعربية، تعرض الكثير من هذه “السينما” التسجيلية والوثائقية، واليوم أيضاَ، فإنّ الكثير من المهرجانات تقام للسينما الوثائقية.. وفي الغرب تحظى الأفلام الوثائقية بالاهتمام اللائق بها، بينما على الضفة العربية، لاتزال النظرة الدونية ذاتها؛ “ممسحة المعبد” تلك الخرقة أو القطعة من النسيج التي توضع على درجة العتبة الأولى للفيلم الروائي..!
محكوم بسرعتين
الفيلم الوثائقي، ورغم أنه تحرر من الكثير من القوالب القديمة، وفيه مجال واسع للإبداع، والاستفادة من بقية الأنواع الفنية الأخرى، لكن يرى بعض النقاد أنّ ثمة سرعتين تحكمانه: سرعة الهاوي الذي يشتغل فيلمه من دون رقابة، ومن دون أي اعتبارات أخرى، ولاسيما المادية منها، لكن مشكلته في كيفية إيصاله للناس، وسرعة المُحترف المُتمكن ذي الثقافة الواسعة، وصاحب الموقف، لكن مشكلته في التمويل، و..التسويق.!
أسرد كل ما تقدم لأشير لأمر هام جداً في مسألة الأنواع الإبداعية التي حاولت أن تُقدّم شواغلها الفنية الموازية لما جرى أثناء الحرب على سورية خلال حرب السنوات العشر الماضية .. فقد قُدّم في مجال الرواية مئات الروايات، غير أنه لم تتوفر منها رواية واحدة قاربت إبداعياً ما حدث، وما جرى، وهكذا كان في الأعمال التشكيلية، والعروض المسرحية، وكذلك في السينما والشعر والقصة..
كل أنواع الإبداع التي قُدمت على أنها المُعادل الإبداعي ، وعلى الصعد كلها خلال سنوات الحرب على سورية؛ بقي الواقع السوري متقدماً على كل هذه الصنوف من الإبداع حتى في مجال الخيال، والمجاز.. فما جرى فاق كل مساحات التخييل التي يُمكن للعمل الإبداعي أن يُخوّض في مجزاته وشطحاته، ومن هنا نُفسّر (بؤس) الأعمال الإبداعية التي قدمت نفسها على أنها: “أدب الحرب، أو سينما الحرب، ومسرح الحرب، وغيرها من مجالات الإبداع..”.
أسباب مرحلية
ربما يعود الأمر لأكثر من سبب؛ وقد تكون مسألة (الزمن)؛ أول هذه الأسباب، بمعنى؛ يحتاج المُبدع أياً كان مجال إبداعه إلى فترة زمنية ليستوعب ما جرى، ومن ثمّ ليُعيد صياغته إبداعياً، وهذا ما تمّ في مُعظم نكبات الحروب في العالم، من الحربين العالميتين، وإلى الحروب التي حدثت خلال ربع قرن الأخيرة، وهنا نُشير إلى أن العمل الفني ذي الشهرة العالمية للفنان التشكيلي الإسباني لبيكاسو (الجرنيكا)، قدمه بيكاسو بعد سنوات طويلة من انتهاء الحرب الأهلية الإسبانية، وفيه يُصوّر مأساة تلك الضيعة (الجرنيكا) التي دُمرت خلال تلك الحرب.. وإلى فترة قريبة جداً لايزال إنتاج أفلام حديثة عن الحربين العالميتين، ذلك أنّ الكثير من الزوايا ستبقى غائبة عن المبدع، ربما لشدة القرب التي تحجب، والتي قد تُسبب «العماء» في بعض الأحيان.. وهو الأمر الذي يحتاج الهدوء ريثما يتوقف غبار المعارك، ومن ثمّ اتضاح الرؤية، والرؤية للمشهد كاملاً..
وربما ثاني تلك الأسباب، الحالة (الآنية) التي تتحكم بمشاعر وعواطف المبدع التي تدخله في الحالة التعبوية الجارفة، وهو الأمر الذي يضع العمل الإبداعي في مطب الهشاشة والمباشرة، وهو ما نراه في معظم الأعمال على تنوعها التي قُدمت عن الحرب على البلاد.. فقد بقي الواقع متقدماً عليها بمسافاتٍ بعيدة طويلة..
إذاً.. مالعمل؟!!؛ اعتقد أن الجواب، أو الحل اليوم؛ يكمن في الفيلم الوثائقي، الذي يعتمد على شهادات من الأبطال الحقيقيين، الذين هم وحدهم عليهم تقديم هذا (الواقعي) الذي فاق الخيال، ولابأس من المزج بين النوعين: الوثائقي والتشخيصي..