الناقد حنا عبود يصحح نظرية ظهور الأنواع الأدبية
كعادة الناقد الأدبي حنا عبود في تقديم أفكار جديدة، ألقى، بعد غياب عشر سنوات عن المشاركة في الأنشطة الثقافية، محاضرة بعنوان (التحولات الكبرى للرواية) وذلك ضمن نشاط اتحاد الكتّاب العرب في حمص، رأى فيها أن الأنواع الأدبية هي على النقيض مما هو سائد، إذ لم تنبثق من الطقوس الدينية التي كانت تقام بمناسبة موت آلهة الخصب وعودتها إلى الحياة، أيّ احتفالات الخريف والربيع البهيجة، بل ظهرت في مرحلة أبكر من المرحلة الزراعية التي أنشئت فيها المعابد، وظهرت في مرحلة الصيد التي رافقت مرحلة جني الثمار مرافقة خجولة، والتي صارت المرحلة المهيمنة السائدة.
عرض الناقد عبود بداية هذه الفكرة كمراجعة لأفكاره هو، وتصحيحاً لنظرية الوهم الذي كان يحسبها منشأً للأنواع الأدبية وفق ما جاء به أرسطو.. بسؤال طرحه على نفسه؛ ما الذي كان قبل تلك الطقوس؟ وأشار في معرض توضيحه لأفكاره إلى أن أكبر الثورات في العالم لا تزال هي الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة المعلوماتية، فهي على خلاف الثورات التي نظن أنها غيرت في مسار الحياة كالثورة الفرنسية أو البلشفية. فمع مرحلة جني الثمار كانت مرحلة الصيد، التي قدمت القوت واللباس والمسكن، فمن أجل الصيد أمّن الإنسان أدوات الصيد وحماية جسده منها.
كما أشار المحاضر عبود إلى أن رحلات الصيد كانت متنوعة صيفية وشتوية وخريفية وربيعية وكلما عاد الصيادون أقيمت السهرات التي يروي فيها الصيادون حكايات الصيد ومغامراتهم في هذه الرحلة، فهو صيد وفق الفصول وأنواع لا تعد، ناهيك بأنواع الحيوانات، ورحلة الصيد تبدأ بجوقة وأغان ويرتدون لباساً يماثل الحيوانات، وكانوا يغنّون لمن يذهب للصيد على نحو جماعات، فكانت الروايات مزيجاً من الواقع والخيال. وبالتدريج صارت تقام للصيد طقوس، فهناك رقصات خاصة قبل انطلاق الرحلة كرقصة الدب والذئب والثور الوحشي.. وعندما يعود الصيادون كان الاستقبال، فإذا فقد الصيادون أحد أفرادهم فإن الطقوس تتميز بالحزن، وإن كان الصيد وفيراً عمت البهجة وأقيمت الرقصات المتعددة، كما جاء في الموسوعة البريطانية طبعة ١٩١١. وكان كل صياد عليه أن يلقي قصة رحلته للصيد، فالصيد أطول حرفة في التاريخ، فلم يكن الصياد يستطيع أن ينقص شيئاً من عدة ولباس، وللصيد آداب محددة لا يمكن مخالفتها وإلاّ طرد من الرحلة.
ويرجح الناقد عبود أن سكان الكهوف ما هم إلاّ الأشخاص الذين مارسوا الصيد واتخذوا تلك الكهوف أماكن للاستراحة خلال رحلة الصيد وليس للسكن الدائم. ومن قصص الصيد ظهرت أيضاً الروايات الطوباوية التي تحلم بالمدينة الفاضلة منذ جمهورية أفلاطون حتى الأفلام الجديدة التي تنتجها السينما.
ورأى المحاضر عبود أنه من مرحلة الصيد ظهرت كل الأنواع الأدبية وراحت التحولات الكبرى تحدث فيها، ففي المرحلة الزراعية ظهرت الملاحم وفي مرحلة الفروسية ظهرت الروايات والأشعار الفروسية، وفي حملة الإسكندر على الشرق تعرف العالم الغربي على المدن الشرقية، فصارت الرواية تطوف المدن متحدثة عن الجديد الذي تراه فيها وسميت هذه الرواية باسم (الرواية الإسكندرية) نسبة إلى الإسكندر. ولدى انتشار المسيحية ظهرت قصص القديسين كما في كتاب «السنكسار»، ثم قامت الثورة الصناعية فأحدثت ضجة كانت نتيجتها الرمزية والمستقبلية التي آمن معتنقوها بأن الصناعة منقذة للحياة مع أنها ألغت الأرض ووضعت الأبنية والمعامل والدخان وغطت الأوزون، وأصبح كل شعرهم وقصصهم ورواياتهم عن مستقبل الصناعة. وبالتالي قام الرومانسيون بتحول ضد الصناعة. وعندما ظهرت الثورة الثالثة (المعلوماتية) تحولت الروايات إلى رواية الأسرار مثل شيفرة دافنشي، أو كشف عن سر مستقبلي، أي رواية الخيال العلمي التي كانت تطوف بين الكواكب والنجوم في الأكوان البعيدة برائدها الفرنسي جول فيرن.
ويخلص المحاضر إلى القول: لا يوجد نوع أدبي يستقل بذاته، والنوع الأدبي الذي يريد أن يكون له ثبات في الذاكرة عليه أن يكون روائياً أو مسرحياً وبالأدق درامياً، فهي تشمل الكل تشمل الشعر والملحمة بأسلوب واقعي أخّاذ وهذا ما جعل قصيدة «الغراب» لإدغار آلن بو تثبت في الذاكرة وجاءت بأسلوب واقعي لأن فيها دراما وشخصيات وأحداثاً ورقة وحزناً وتسلسلاً، وفيها آمال وفرح. وهذا ما يدفعنا لاستحضار ما قاله هيغل (إن المستقبل للنثر)، الذي سيقوم بمهمة الشعر والذي سيكافح من دون شك، وسيحاول أن يخترع ويبتكر، لكن ابتكاره بالأسلوب فقط.
وكأننا بمحاضرة الناقد حنا عبود نجد إجابة عن سؤال رواج الرواية التي يمضي إلى كتابتها الكثير من الكتّاب سواء جاؤوا إليها من فن الشعر أم من فن القصة القصيرة، رغم أنه أشار إلى أن الشعر يمكن أن يكون رواية حين تتوافر فيه العناصر التي توافرت لقصيدة إدغار آلن بو (الغراب)، وهذا ما توافر لقصائد عربية كثيرة ذكر بعضها الناقد عبود عن الشعراء بدر شاكر السياب، وعبد الوهّاب البياتي، وصلاح عبد الصبور وآخرين.