لهذه الأسباب بقي «الأدب المهجري» ظاهرة منقطعة ..!!

يُحكى أنّ أول مهاجر من بلاد الشام، كان اللبناني انطون المشعلاني عام 1854، وكانت وجهته صوب أمريكا الشمالية، ويُحكى أيضاً أنه مات بعد هجرته بسنتين، فيما كان أول أديب مهاجر من الديار ذاتها – الشامية – هو الشاعر ميخائيل رستم، حيث بلغ عدد المهاجرين بين عامي 1889 و 1919 ما يُقدر بستين ألفاً..!
حنين الشواطئ
إذاً كانت تلك الهجرة بين الربعين، الأخير من القرن التاسع عشر، والأول من القرن العشرين، وكان سمتها، أنّ معظم المهاجرين، هم شوام، وتحديداً من سورية ولبنان، وكانت هذه الهجرة غالباً باتجاه بعض الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية، البرازيل، الأرجنتين، فنزويلا، وقليلاً المكسيك، وكان طريق الهجرة البحر، ومن هنا كثرت قصائد الوداع التي صوّرها هؤلاء المهاجرون ببالغ الحرقة، حيث المناديل الملوحة، والعيون الدامعة، وكأن المرء « يرى من خلف زجاج مكسور» أي كان الحنين يبدأ من عند مغادرة السفينة لضفاف شواطئ الوطن باتجاه المهجر، ليعود الشاعر، وغالباً كان الأدباء المهاجرون شعراء من ذات طبيعة الشاعر ما قبل الإسلام عندما كان يجثم باكياً عند أطلال قبيلة الحبيبة، حيث الافتراق عن القبيلة لبعض الأميال في الصحراء، كان يفجر الشاعر حنيناً وشوقاً ملتهباً, وهنا يمكن الحديث عن الصدمة العاطفية التي ولدت الإبداع من قلب هذا الحنين المبكر، وعودة الشاعر للوقوف على الأطلال، لكنها هنا أطلالاً غير مرئية إلا في خبايا القلب والروح، أطلال ذكرى وطن بعيد جداً..!
ذلك أن الهجرة هنا كانت إلى مجاهل يلفها كمٌّ هائلٌ من الغموض والالتباس، أيّ إلى بلاد لا يعرف عنها الأديب شيئاً، والذي هو شاعر تقليدي سلاحه العروض والبحور الستة عشر، وكان هذا الشاعر لا يعرف من اللغات، غير لغته الأم أي العربية – غالباً – شاعر بهذه الإمكانات والظروف والذي هو قاب قوسين من الانقطاع عن الوطن، إلا من بعض الرسائل بتواريخ قديمة، ينقلها بريد قديم كان يولّد لديه شعوراً بالاقتلاع من الوطن، ومن ثم كانت الخيبة، فالشاعر الذي هاجر لأجل الرزق تحديداً، يغرّب خلفه، ويقسم: إن هذا الرزق صار يشرّق..!!
تشريق وتغريب
وليخفف المهاجر من هول هذا الاقتلاع، حاول الشاعر هنا بما ملك من خيال ومجازات، أن ينشئ وطنه, وإن كان مجازاً بتلك الجرعة العالية من الرومنطقية والحنين الحارق، جعلت شاعراً مثل نسيب عريضة يتمنى العودة لأم الحجار السود – حمص – حتى ولو حشو الكفن، وكانت النتيجة هذا الأدب المهجري، الذي كان له من حدد سماته وخصائصه، فقد شكّل مدرسة متكاملة من الرومنطقية بموهبة أقرب إلى الفطرية، حتى ليظن أحياناً أنه لولا صدمة الغربة هذه لما كان ثمة أدب يدعى«مهجرياً» ..اليوم لم يعد ثمة أدب مهجري، برغم أن الهجرة لم تنقطع منذ أن بدأها أنطون المشعلاني، والشاعر ميخائيل رستم، حتى إن هذه الصفة افتقدت تماماً أي «المهجري», وصرنا اليوم لم نعد نمّيز بين قصيدة كتبت في دمشق وأخرى كتبت في باريس أو لندن، هذه الكتابة التي افتقدت لجرعة الرومانسية العالية، فلا حنين مخبأً بين الحروف، ربما فقط لدى بعض العراقيين والفلسطينيين، وهم الأكثر اغتراباً اليوم منذ منتصف القرن الماضي إلى الآن، كما أن الأديب المغترب، هو روائي وشاعر وقاص وفنان تشكيلي, وليس شاعراً فقط، يسافر بالطائرة، وتحت إبطه «اللابتوب», وفي خدمته كل وسائل الاتصال الحديثة من« نت، وفضائيات، وهاتف»، حتى إنه يقرأ جريدة الوطن قبل أبناء الوطن أنفسهم، يسافر إلى بلاد الاغتراب، وهو يعرف على الأقل تسعين في المئة عنها، أي ليس ثمة صدمة بانتظاره تولد الحنين، وهو الذي هجر عمود الشعر منذ ما يقارب المئة سنة، يكتب قصيدة النثر بكل حميمية اليومي، وكانت وجهة الاغتراب هذه المرة ليس عبوراً للمحيطات والبحار، بل ربما إلى الضفة الأخرى من المتوسط وتحديداً إلى باريس ولندن وبرلين، وقد يصل إليها قبل أن يصل المسافر من دمشق إلى حلب.. اليوم يكاد المبدع العربي يحمل وطنه في حقيبة سفره، هل لأن الأمر كذلك ظل الأدب المهجري ظاهرة منقطعة، لدرجة انقطعت معها كلمة المهجر اليوم لتحلَّ محلها مفردة المسافر والمغترب، وإن طال الغياب..؟!!
وطن وحقيبة
ربما يُفسر أمر هذه القطيعة بـ« شدة الاقتراب» التي غيّبت مسألة الحنين على الأقل في النتاج الأدبي لهؤلاء «المسافرين» الذين هم طلاب علم أم مجد ما، والرزق غالباً بانتظارهم، أي إنّ النص الذي يكتبه المبدع السوري في برلين، لا يختلف أبداً عن النص الذي يكتبه زميله المبدع في دمشق أو طرطوس، وكذلك، فإنّ اللوحة التي يقدمها الفنان التشكيلي السوري المقيم في لندن أو فيينا، فإنها تتقاطع مع اللوحة التي يقدمها الفنان التشكيلي السوري المقيم في اللاذقية، وهي من المحترف ذاته، بل إن البعض من الأدباء أصدر أنطولوجيات شعرية، وهو مقيم في باريس شملت مختلف الشعراء السوريين، وبقراءة قريبة، وكأنه يُقيم في ساروجة بدمشق..؟!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار