عن جبلة التي في الذاكرة .. زينب الخيّر في رواية (بيت الأمتار الستين)
“ياه!!.. يا عمر الخطوة الناقصة؛ كلّ سبيل أبتديه سينقطعُ قبل لحظات الجني.. قبل خطواتٍ من القطاف!!.”
على إيقاع هذه اللازمة؛ أي لا شيء ولا أمرٍ جميلٍ يكتمل، أو يبقى جميلاً حتى خواتيمه، وإنما ثمة ما يوقف البسمة قبل خواتيم افراجتها الأخيرة، تماماً كفارسٍ تحرنُ فرسه قبل خطّ النهاية بقليل، حيث يصيرُ طعمٌ آخر، ومذاقٌ مُختلف للأشياء تماماً كحامضٍ في الحلق، أو كمذاق الدُفلى!!
على مثل هذه (الخطوة الناقصة)، أو على إيقاعها الذي غالباً ما يكون تأثيرها مؤلماً، ومُضاعفاتها ليست بالهيّنة على الكثير من أعضاء الجسم؛ تسردُ زينب الخيّر روايتها (بيت الأمتار الستين)، الصادة عن دار دال في اللاذقية، وترفق هذا العنوان، بعنوانٍ آخر بالكاد يُرى تماماً كذكرى قابعة في أعماق الذاكرة، وتحتاج للكثير من التأمل والتذكر حتى تتضح معالمها، تماماً كمن وجد قطعةً أثرية ثم راح ينفض عنها الغبار، ويُنظفها جيداً، ليستحضرَ كلّ العالم الذي كانت عليه ومعه..
وما استحضرته زينب الخيّر من ذكريات (بيت الأمتار الستين) ليس قليلاً أبداً، فقد استحضرت عوالم واسعة تكاد تندثر ليس من معالم عائلة فقط، وليس من معالم مدينة، وإنما من عالم سورية الواسع جغرافياً وتاريخياً، عوالم كانت أو شكلت الإرهاصات الأولى لما نحن عليه اليوم.. هذه الرواية التي تقوم على مبدأ (دوائر البحيرة) تلك الدوائر التي تتشكل بدائرة صغيرة على أثر سقوط (حصى) في مائها الراكد، ثم لا تلبس أن تتشكل دوائر أخرى تتسع، وتتسع ثم تتلاشى سريعاً.. والحقيقة أن سرد الكاتبة الخيّر في هذه الرواية يقوم على هذا المبدأ – مبدأ الدوائر التي تتسع، ثم تتلاشى بالخطوة الناقصة..
(بيت الأمتار الستين)؛ رواية تقوم على مبدأ الدوائر، وهو ما يُبعد السرد عن التسجيلية، لينزاحُ إلى الأدب بهذه التقنية التي تمزجُ الأزمنة معاً في هذه (اللولبية) التي لا تنتهي، وهنا ثمة الكثير من التقديم والتأخير في استحضار أزمنة الرواية، ورغم وضوح الخطوط العامة للزمان، غير أنّ الحاجة التراجيدية، والدرامية كانت تتطلب العودة إلى أزمنة سحيقة في بعض الأحيان لتفسير حالة مُلتبسة اليوم، أو هي تبدو كذلك، قد تعود لقرون، وقد تقفز إلى عقود لاحقة لتخبرنا بما جرى، ومن ثم كانت العودة إلى (بيت الأمتار الستين) في الحي القديم في جبلة العتيقة.. وكأنها توصي بمن يكتب رواية؛ عليك بذاكرة من نوعٍ خاص جداً، لا ترمي أي تفاصيل مهما كانت صغيرة.. لتكتب رواية إذاً عليك بذاكرة أشبه بخزّان من المعارف والمشاهد والحكايات والحوادث.. ومن ثمّ ما عليك سوى سحب (المؤتلف) منها من كل هذه التلوينات الذاكرية لتخدم موضوع الرواية وسياقاتها..
تبدأ الكاتبة الخيّر روايتها من النهاية، من الخواتيم، وقد استوت حياتها في مرحلةٍ عمرية ما.. وقد ابتعدت – الساردة – هنا عن مكان، أو نبع الذكريات عشرات الكيلومترات الزمانية والنفسية والروحية، وكان الظن؛ أنّ هذا النبع أمسى جافاً، وانقطعت مياهه، وقد انمحى المكان من المكان، بمعنى؛ إن البيت القديم للراوية – الساردة التي تحكي عن كل الشخصيات بنفسها، كمن يفتح ألبوم العائلة، ومن ثمّ يروح يسرد حكاية كل صورة من صوره وزمانها.. غير أن ما أعاد للنبع الذاكري تفجره من جديد، وجعله يتدفق، وكأن الأحداث تجري اليوم وهنا طازجة وحارّة وكأنها بالأمس؛ كانت مهمة وظيفية بسيطة تقوم بها الساردة، أو تُكلف بها من قبل مؤسستها التي هي (مديرية السياحة) في اللاذقية، عندما يُطلب منها وهي المهندسة الزراعية العارفة بكل تفاصيل مدينة جبلة السورية، واستفاداً من خبرتها هذه؛ سترافق وفداً أجنبياً يريد التعرف على معالم هذه المدينة – جبلة، وهو الأمر الذي سيكون، أو يُشكّل (ذريعة) لتفجر النبع الذاكري دفعة واحدة وتسجيله في رواية كثيراً ما أخذتني صوب (روايات المكان) ولاسيما رواية (عوليس) للكاتب جيمس جويس ومدينة (دبلن).. والحقيقة؛ كثيراً ما كانت تخطر في بالي تلك الرواية للكاتب جويس، وأنا أقرأ رواية (بيت الأمتار الستين)، لما وجدت الكثير من التقاطعات والمشتركات بين الروايتين، فعوليس أو يوليسيس هي رواية الكاتب الأيرلندي الشهير، تُسجل – كما أمسى معروفاً – خط سير (ليوبولد بلوم) داخل مدينة دبلن خلال يوم عادي من سنة 1904، ويشير العنوان إلى أوديسيوس (الذي اقتبس اسمه عن اللاتينية إلى يوليسيس (عوليس)، وهو بطل أوديسة هوميروس، ويفتح هنا أيضاً المجال لعدة موازنات بين شخصيات وأحداث ملحمة هوميروس وبين شخصيات وأحداث رواية جويس، الأخيرة التي جعلت الكثير من السياح إلى مدينة دبلن يمشون على خط سير بطل هذه الرواية ليستمتعوا بالمعالم التي كانت مكاناً لأحداث الرواية.. وكذلك رواية (بيت الأمتار الستين)، فهي من روايات اليوم الواحد، رغم كل مسيرة التجييل التي دفقتها الذاكرة دفعةً واحدة، وذريعة الدليل السياحي مع الوفد الذي يزور مدينة جبلة، وهو الأمر الذي كان كافياً للتدفق وتداعي الأحداث، ومن ثمّ حبكها وربطها من خلال سرد أشبه باليوميات للساردة..
من هنا فالرواية؛ أقرب أيضاً إلى الاحتفاء بمدينة جبلة، وهنا ليست أية مدينة؛ إنها جبلة المحتوية بحنو لا يوصف على خامس مسرح روماني في العالم، وهي ثالث مدينة سورية في القدامة لا تزال مأهولة إلى اليوم بعد دمشق وحلب، وهي المدينة – القلعة والمُدرّج والميناء الفينيقي، ومقام السلطان إبراهيم ومسجده.. جبلة التي لا تُفرّط بالتاريخ مهما حاول البعض تزويره، وكذلك مهما حاول البعض إزعاج الجغرافيا بتغييب الكثير من الملاح.. وما يزيد هذا الاحتفاء؛ احتفاءً؛ إنّ الراوية تحتفي بالنبع الأول الذي غرفت منه ماء الحياة، هنا كانَ ثمة مرتعٌ للطفولة مفعمٌ بالمشاهد والصور والحكايا، ومن ثمّ لم تكن تلك السيرة التاريخية التي بدأت فيها مكانية روايتها؛ إلا مُبرراً لـ(نستالوجيا) لاتزال تحفرُ في الذاكرة مع كلِّ غياب لأحد ملامح المدينة من معالم وشخصيات.. هنا حيث عبق الحياة الآفلة الذي يضوع على الأحجار والأمكنة؛ هو ما يمنحها تلك القدرة الهائلة على استحضار الزمن بكلّ مكوناته الحارة..
وهكذا على مدى جيلين وربما ثلاثة أجيال ستوّسع زينب الخير دوائرها، أو ربما ترسم دوائرها اتساعاً على لسان الراوية (نجوى) العارفة بمآل ومصائر الشخصيات كلها، حتى دائرة الساردة نفسها، إلى دائرة العائلة، وإلى دائرة المدينة، ومن ثم الدائرة الكبرى الوطن، وهي في توسيع دوائرها لا تكتفي بمآل رسم الشخصيات وحسب، وإنما تُقدم وثيقة شاملة لمآل وطن من خلال مدينة، ومن نافل القول أن نذكر إن العائلة هنا ومآلاتها الأخيرة ليست إلا أنموذجاً مُصغّراً للوطن في جميع حالاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهو ما تبني عليه من خلال (حوادث) أو وقائع حدثت بالفعل، وإن جاء السرد تخيلياً لكلّ ما جرى، ومن هنا يأتي الصوت القوي للساردة – الراوية نجوى، بما يوحي بـ(السيرة الذاتية)، وهنا لا أستطيع التكّهن بحجم السيرة الشخصية في الرواية الموحى بها، ولكنها في كل الأحوال؛ هي تقنية أثبتت جدواها في السرد الروائي، والأكيد أن الكاتبة الخيّر أجادت اللعب على هذا (الإيحاء) السيري أو الشخصي، وذلك بما أجادت به ذاكرتها عندما فتحت كل الخوابي لتتدفق باستعراض أيام أمسى لها سحرها الخاص بمرّها وبساطتها وحلوها وشقائها، وتراثها وحتى الملامح العمرانية خلالها بما بقي منها، وما انمحى بفعل سياسيات عمرانية واقتصادية جديدة.. وسرد السيرة الشخصية، أو بما يوحي به؛ يُعطي حميمية للحكايا بما ينزاح لـ(واقعيتها)، إضافة لإشباع غريزة المُتلقي بـ(التلصص) على الشخصي للكاتب..
حياة واحدة لا تكفي لشخص لصناعة سينما، نقد غالباً ما يواجه به صاحب التجربة الأكثر اكتمالاً في السينما السورية، المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، قد يكون هذا النقد صحيحاً، لو أن ذاكرة هذا الرجل فردية، لاتشابكات فيها مع الآخرين، أو حياة بسيطة لا دراما فيها، مع ذلك أرى أنه حتى مثل هذه الذواكر والحيوات، فيها من الأحداث، ما يشكّل أفلاماً سينمائية، إذا ما توافر لها مُخرجٌ متمكّن.. فكيف إذا كانت هذه الذاكرة تتقاطع مع ذواكر الآلاف، وربما الملايين، و ينجدل فيها الخاص بالعام حدَّ التماهي، بحيث يستحيلُ التفريق بين ما هو خاص، وما هو عام، ذاكرة جمعية يقدمها عبد اللطيف عبد الحميد كتاريخٍ موازٍ، حاضرٍ بقوة كأنه يجري الآن وهنا.. وهكذا الروائية زينب الخيّر في كل ما قدمت إلى اليوم، وهنا نذكّر بروايتها اللافتة – والتي هي أيضاً رواية أجيال – رواية (العزيزة).. فزينب الخير وكذلك عبد الحميد يتمسّكان بالذاكرة من منطلقٍ إنساني، وإحساسهما بالزمن الذي يحمّلهما شعوراً بالفقد، والسينما وكذلك الرواية كما هو معروف، إبداعان ضد الإمحاء، ولاسيما ونحن في العالم العربي، مُصابٌ أغلبنا بما يشبه فقدان الذاكرة المزمن أحياناً، أو على الأقل لا نعرف التاريخ إلا من وجهات نظرٍ أحادية..!
من هنا نتفهّم هذه الحالة السينمائية في سرد الأحداث، وحالة المشهدية العالية في رواية (بيت الأمتار الستين)، الذي يأتي من إيقاع المشاهد البعيدة، وربما كرد فعل على (الحيز الضيق)، الذي كان الفضاء الذي منه توزع أفراد العائلة في شرق الدنيا وغربها، سواء على الصعيد النفسي، أو على صعيد المكان، لغة مشهدية تأتي حارة وحميمية، وتأتي خلفية للحدث، تماماً كمخرج سينمائي يرسم أحداثه بالكاميرا.. “ذهبنا سيراً على الأقدام؛ كانت الطريق إلى هناك ضيقة، مُهملة، تتفرعُ منها دروب ترابية يميناً، وإلى الشمال.. تتشعّب، وتتلوى لتصل البيوت بالطريق الإسفلتي، وعلى الجانبين أزهار من كلّ صنفٍ ولون، فالوقت ربيع، والأرض ألقت كل ما في أحشائها من بذور الحياة إلى العلن..”.
رواية (بيت الأمتار الستين)، رواية مفعمة بالحكايا المشبوبة بالقلق والشوق، والرسائل المُشفرة التي تقي القلب الإحساس بالفراغ كما آلاف مؤلفة من قصص الحب التي اكتملت كل عناصرها لتشتعل وتلتهب كما النار، ثم انطفأت خلال العقود الأولى من النصف الثاني من القرن العشرين في مدينة كل ما فيها يدعو إلى الحب، غير أن الرماد يفعل فعله السيىء في الإخفاء والامحاء..