لِمَ ولمن نكتب ..؟!!

لا تكف البشرية عن إنتاج أفكارها وسريرتها عبر الكتابة.. وهي حين تفعل ذلك إنما تكتب تاريخ تحولاتها المستمرة، وتؤرخ لسيرتها التي يتضافر على صنعها آلاف الكتّاب من أجيالٍ مختلفة.
من جهته يحاول الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس أن يُمجد الكتابة نفسها بما يشبه صرخة الشاعر الفرنسي سان جون بيرس “أنا حامل عبء الكتابة، سأمجد الكتابة”.. وهو أي بورخيس، يعدّ لهذا السبب أن” ألف ليلة وليلة “هو الكتاب النموذجي الأكمل الذي لا نعرف له أول من آخر، بل هو مفتوح على متاهة المعنى المتكررة في كلِّ عصرٍ، بحيث يُمكن أن يضيف إلى تلك الليالي ليلته الخاصة ويخلق شهرياره وشهرزاده في آنٍ.
في مؤلفه “الأحلام المشرقية “عن الكتب بوصفها المادة التي تحمل عصارة الفكر الإنساني على امتداد العصور، وتجمع بين دفتيها خلاصة التجارب والأحلام والرؤى الكونية، والعالم في رأي بورخيس شبيه بمكتبة كبرى لا بداية لها ولا نهاية.. هذه النظرة العميقة لدى بورخيس لا تقتصر على الكتابة وحدها، بل ترتبط بالقراءة بوصفها متمم الصورة ومكملها., فالقارئ ليس مجرد كائن حيادي ومنفعل، بل طرف رئيس في عملية الكتابة نفسها.. لذا علينا ونحن الكتاب؛ أن نطرح على أنفسنا سؤالاً مزدوج الدلالة : لمَ نكتب ولمن نكتب؟
إن طرفي السؤال يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً بحيث تتضمن الإجابة عن أحدهما إجابة عن الآخر، وسواء كنا نكتب للتوازن مع الذات، أو لرأب الصدع بين الممكن والواجب، وبين الواقع والمتخيل، أو نكتب لكي نهزم الموت ونتصالح مع الأبدية، فإنّ كل هذه الأسباب تقودُ إلى الاعتراف بأننا نكتب لفردٍ واحد هو ذواتنا.. لكن الذات يمكن أن تُحقق نفسها بمجرد كتابة النص وإنجازه.. ولو كانت الكتابة ترمي إلى شفاء صاحبها من قلقه واختلال توازنه فحسب، لكان على الكاتب أن يمزق أوراقه بمجرد الانتهاء من كتابتها، أو يخفيها عن أعين الآخرين.. إن مجرد خروج النص ووقوعه تحت نظرات القراء؛ هو بمثابة تأكيد لرغبة الكاتب في الاتصال والتواصل مع الآخرين من جهة، وتأكيد هويته التي تصبح عبر الكتابة مركبة ومركز استقطاب لهويات الآخرين من جهة أخرى.. أما الذين يتحدثون عن عزلة الكتابة وانقطاعها عن الجماعة، إنما يناقضون أنفسهم بالذات، لأنهم فيما يتحدثون عن العزلة، يتوجهون بالحديث إلى الآخرين المعنيين بالخطاب، ولعلّ البعض يخلط بين آلية الكتابة ودورها اللاحق الذي يرغب الكاتب في إنجازه، فنحن فيما نكتب ينبغي أن نُحرر وعينا من لواحق العمل الأدبي الوظيفية، والإبداعية بشكلٍ خاص، كالخطابة والمنبر والتلقين…الخ. ذلك لأن النص يولد في العتمة الكاملة بحيث لا يشع في الداخل الإنساني سوى ضوء المكابدة العميقة والتنقيب عن الأسرار الداخلية للنفس الظامئة إلى التحقق.. تتم الكتابة في العزلة، لكنها ليست العزلة المنقطعة إلى فراغها؛ بل الرامية إلى التوحد بعزلات الآخرين، والبحث الضمني عن المناطق المشتركة التي تُشكّل بطريقة من الطرق وجود الكائن الإنساني، وكأن الكاتب يُنقب باللغة والحدس عن المياه الجوفية التي تلتقي مصادرها في نقطة ما من الأعماق، وكلما أوغل الكاتب في عمق ذاته التقى ذوات الآخرين الذين يشبهونه في لهفتهم إلى اكتشاف الحقيقة أو الوصول إليها.. في هذه الحال نحن نكتب للآخر كما نكتب لأنفسنا، وهذا الآخر ليس له وجود خارجي منفصل؛ بل هو في وجه من الوجوه “آخرنا” نحن، وحين نحاور أنفسنا، فنحن في الواقع نحاور الآخر الذي نستولده من أعماق ظلمتنا المُلحة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار