تنوعت حوامل إبداعه بين جدار ولوحة وكتاب.. موفق مخول يفك الحصار عن فنون التشكيل بـ«انفجاراتٍ لونية»

يُوزّع الفنان التشكيلي موفق مخول شواغله الإبداعية في اتجاهاتٍ ثلاثة: الشغل على اللوحة، وهي أقدم هذه الشواغل، والتي عبر من خلالها بأساليب مُختلفة، حتى استقرّ – على ما يبدو – اليوم بصياغة لونية، وتكاوين لها غاياتها التي اكتسبت ملامحها الفارقة.
أما الشغل الثاني؛ الذي كان الأشهر في تجربته الفنية، وإن كنتُ لا أراه الأهم، وإنما يأتي تنويعاً في التجربة، وهو اللوحة الجدارية على (حيطان) دمشق، والتي جاءت من خلال إعادة تدوير النفايات التي استهلكت، ومنحها مهمات جمالية وتزيينية لجدران الشام.
أما الشغل الثالث؛ الذي يأتي (نزقاً) ساخراً مُتهكماً يائساً مُحبطاً؛ فكان في الكلمة، ولكن ليست أي كلمة؛ إنها الكلمة (المخولية) التي لا تُشبه سوى صاحبها، وله في هذا المنحى غير نشاطه الفيسبوكي اللافت؛ كتاب صدر بعنوان (مخوليّات).
وموفق مخول في مختلف تلك الاتجاهات، والشواغل؛ استطاع أن يؤسس لحالة ثقافية مُغايرة في المشهد الثقافي السوري؛ أستطيع بثقة أن أسميّها (الحالة المخوليّة) في الثقافة السورية، فإلى اليوم لا أحد في سورية؛ استطاعَ أن يوصل (فنون الشارع) إلى العالمية، كما أوصلها موفق مخول، وذلك عندما سجّل رقماً قياسيّاً لأطول لوحة جدارية في موسوعة (غينيس).. اللوحة التي أطلق عليها اسماً لافتاً (انفجارات لونية) على جدار مدرسة على أتوستراد المزة.
الغواية اللونية
وإذا ما رجعنا للاتجاه الأول في شواغل مخول، وأقصد بذلك اللوحة؛ فإنّ مخول سيخوّض طويلاً في التجريد والطبيعة الصامتة.
التجريد الذي يصفه مخول؛ إنه يمنحه الكثير من (الحرية).. حيث يذكر: “عندما أشعر بأنني في حالةٍ من الجنون، ويجب أن أصرخ، وحطّم (القوانين) التي تعشش في عقلي؛ أذهب فوراً إلى التجريد حتى أتنفس حرية..” ومن ثمّ كان المزج والتماهي بين الغوايتين اللونيتين، حتى يصل إلى تعبيرية حارة وناضجة ومكتملة البنية اللونية والتكوينية، وحتى البحثية، وربما كان المزج بين الطبيعة الصامتة والتجريدية؛ إن شكّل البرزخ الذي عبر منه إلى هذه التعبيرية اللونية اللافتة اليوم.

فقد منح في تلك البدايات ما بين الدراما التي يُمكن أن توحي بها المُفردات وعناصر الطبيعة الصامتة، وحالة المد اللوني الذي يُحيط بتلك العناصر، وهو الأمر الذي أخرجها عن صمتها صوب مجاز مُفعم بالرموز والإيحاء، وكذلك بالإسقاطات..ولاسيما أنه كان يضع تلك العناصر في المكان الأهم على مدى اللوحة، وهو غالباً في وسطها، ثم ليترك الضوء ليمنح ملامح الأشياء وظلالها: فانوس قديم، ورمانة، أو تفاحة، وبعض الأشياء الأخرى الغامضة، وفي هذا السكون يأتي الضوء ليصنع الظلال، ويُفصح عن وجوه الأشياء، ثم ليُحاط كل ذلك بالكثير الذي يشف حول هذه (الأغراض)، ومن ثمّ ليزدادُ كثافة وسواداً في الاتجاهات اللانهائية، أو هذا ما تمنحه لأبعاد اللوحة، التي يُمكن لهذه الغنائية البصرية اللونية أن تنفي وجود أبعاد للوحة، وكأنّ لا حدود للمدى اللوني.
اليوم – يبدو – مخول أنه وصل إلى صياغة بصرية، إلى (تشخيصية) واضحة الملامح، ورغم أن معرضه الذي أقامه بعنوان (مخوليات) في صالة ( ألف نون ) بدمشق منذ سنتين أو أكثر؛ ابتعد فيه ما أمكن عن التشخيص، صوب أقصى مدى من الاختزال والاقتصاد.. غير أنه في ملتقى (مرمريتا) مؤخراً؛ كانت التشخيصية محور لوحاته، لكنها التشخيصية المُكثفة، أي التي تأتي بشخصياتها غائمي الوجوه، أو بما يدل عليهم، أكثر ما تأتي بهم بكامل تفاصيلهم، وهم هنا يأتون (زرافات)، وليس (وحدانى)، بمعنى أن التشخيص يأتي بمجموعات من الناس، غير محددي الوجه، أو الجنس.. وهم في حالات خاصة جداً من الوجد والشغف، والمفعمين بالروحانية.. فهم حيناً بحالات جنائزية، وطوراً وكأنهم في ترانيم وصلوات، وكأنهم ينشدون الفرح، وحسن الخواتيم.
والفنان مخول؛ هو أيضاً من فنانين كثر؛ وجدوا في هذا الميديا الجديدة أماكن بديلة لعرض نتاجهم الفني، وهو أيضاً من الفنانين الناشطين على صفحات هذه الميديا – التواصل الاجتماعي، ولاسيما (الفيسبوك).. ومن خلال تعليقاته على بعض أعماله تحديداً تجربته اللونية الجديدة؛ يُمكن للمُتابع وكذلك المُتلقي أن يفكّا رموز (الشيفرة) البصرية التي يُقدمها مخول.. هنا تصير التشخيصات لأكثر من غاية، لكنها بالدرجة الأولى هي ذريعة لاندفاعات لونية أثيرة على نفسه، ولاسيما هذه التجاورات التي توحي بالروحانية، ولاسيما في اختياراته الألوان التي توحي بالصوفية وبطهرانية خاصة، ثم لتأتي التكوينات الغامضة – (المجموعات الإنسانية)، لتزيد في الحالة الروحانية إلى مداها الأقصى، ذلك ما توحي به تجاورات الأسود الرخيم والشاعري والناعس، مع توهج الأصفر، والذهبي والأحمر، بما يُقارب بنية وتكاوين فنون (الأيقونة)، بل إن مخول في الحقيقة؛ يُقيم (أيقوناته) الخاصة، وهو ما يُشير إليه بوضوح لافت بـ(الهالات) النورانية التي تنتشر دوائر حول الرؤوس المتضرعة حيناً، أو المُفعمة حزناً ونبلاً.. حالات شفيفة مُفعمة بالمشاعر.. كل ذلك يُقدمه مخول من دون أن يمنح (تجسيداته)، أي ملمح ليُقدم ما نُشير إليه، وإنما فعل كلَّ ذلك بالحالات اللونية المُدهشة في كلِّ مرة.. ذلك أنّ مخول – وكما أسلفنا – غيّب كل ملامح الوجوه، والملامح، وأشار إلى الأشخاص بمنتهى الاختزال والاقتصاد.. وهنا سيُفارق الإيقونة المُتعارف عليها، والتي كانت غايتها الأولى، أو في البداية؛ هي شرح الأنجيل والتعاليم المسيحية الدينية بالصور، لاسيما عندما تتوجه لـ(الأميين) الذين لا يعرفون القراءة، قبل أن تصير هي نفسها حالة مقدسة وجمالية، وذلك عندما أمسى من غاياتها تكريم القديسين .. أما في لوحة، موفق مخول، أو قل في (إيقونته)؛ فالقديسون هم الناس الصابرون، على كل هذا البلاء الذي يأتيهم من جهاتهم الست، الناس المضحون المدافعون عن أوطانهم، القديسون الفقراء الذين قدموا أبناءهم شهداء ليحيا الوطن، وإن جاعوا فيه، يُعلق مخول على إحدى لوحاته: ” صباح الخير أيها الرفيق ” فيما يُعلّق على أخرى إنه: ” نتيجة الغلاء والخوف؛ أصبح كل الفقراء قديسين بالنسبة لي..” ويُعلق على آخر لوحات عرضها على صفحته الشخصية على (الفيسبوك): “هذا آخر عمل نفذتّه منذ ثلاثة أيام، لا أعرف ماذا أقصد به، لكن الذي أعرفه؛ إنه يوجد بداخلي صراع مُخيف بين ملائكة وشياطين..” هذه اللوحة، وإن كان ينظر إليها كـ(سجن) – كما يُردد- غير أنها “السجن الذي يتسع لكلّ أحلامي ..” كما يُردد.
من هنا – برأيه – ليس بالضرورة أن تفهم اللوحة؛ لكن من الضروري أن تحرّك مشاعرك وأحاسيسك.. وحقيقة هذه كانت غاية ما يُريده مخول من العمل الفني؛ إن يُحرك مشاعر المُتلقي وأحاسيسه، وهو – من وجهة نظري- ما حققه في مختلف الأعمال التي أنجزها.
الغواية الجدارية والزخرفية

أما في المنحى الآخر من شغل مخول؛ وأقصد بذلك الأعمال الجدارية، حيث كانت الجدران حمّالة لجمالياته التي قارب فيها الأعمال النحتية أكثر من (الغرافيت)، ذلك عندما راح، وتحت ضغط هواجسه في أن لا يرى جدراناً عارية من مسحة جمالية، وكانت البداية على طول جدار سور حول أربع مدارس بدمشق، هي (بسام حمشو، أنور العطار، المركز التربوي للفنون التشكيلية، والبيروني) وبطول يتجاوز الـ(160م) وارتفاع (4م).. هنا قرر الفنان التشكيلي موفق مخول وفريقه من الفنانين التشكيليين؛ إقامة أطول جدارية فنية من البقايا والنفايات والمخلفات، لاسيما البقايا الصناعية المقاومة لعوامل الطبيعة، أي جدارية، الهدف منها أن تكون إحدى معالم دمشق الجمالية.
على هذا الجدار الذي كان صماً بلون رمادي جامد، ستتجاور الأشياء والأغراض القديمة، لإنشاء حالة بصرية، وحوار جمالي مختلف، فمن مرايا وسيراميك مكسور، قوارير وعلب سردين، براغ وشبك حديد، أقراص جلخ منتهية الصلاحية، فناجين قهوة ومصابيح مكسورة، والكثير من الأغراض القديمة، التي كنا نظن، أنها أصبحت نفايات وبقايا، وانتهت وظيفتها لعطبٍ ما، أصابها، أو لقدمٍ، غير أن ثمة فنانين وجدوا لها مهام أخرى، لتعيد تكوينها وتشكيلها من جديد، ولإعطائها حياة ولون لنفسها أولاً، ولجدارٍ كان باهتاً وغبياً وعارياً على حد وصف الفنان مخول، وفي منطقة يُشكل وجوده السابق الأقرب إلى الحاجز مغلقاً أمام الأفق، في منطقة ذات حيوية إنسانية خاصة، وكانت هذه التكاوين اللونية والتشكيلية التي تآلفت بالتجاور.. تلك اللوحة التي أطلق عليها اسم سنعرف مدلوله لاحقاً (إيقاع الحياة) سنة 2011، حيث لا يطول الوقت حتى يكون اسم الفريق من الفنانين الذين سيكررون التجربة على عشرات الجدران في دمشق، ولعلّ أشهرها اليوم (جدار غنيس)، وهو اللوحة التي دخل من خلالها مخول وفريقه موسوعة غنيس والتي منحها اسماً كاريكاتورياً (انفجارات لونية)، وكأنه يسخر من وقع قذائف الهاون من حوله، هذه الجدارية التي بلغت مساحتها ما يُقارب من (720) متراً مُربعاً..
الغواية الشعبية
في هذه الجداريّات؛ سعى مخول لفك (العزلة) عن الأعمال التشكيلية، التي لا تزال مُحاصرة رغم أنّ عمر الحركة التشكيلية المُعاصرة في سورية اليوم يتجاوز المئة سنة.. في جدارياته؛ طرح مخول الفن (شعبويّاً) فقد كان يطلب أحياناً من المارة والفضوليين أن يُساهموا بتشكيل تلك الجداريات من خلال أبسط الأشياء، وتدوير النفايات لإنجاز عملٍ تشكيلي مُعاصر من دون أن يقطع صلاته مع الموروث الجمالي المحلي من فنون زخرفية وفيسفساء، ونشر الثقافة البصرية مازجاً بين فنون (الغرافيتي) والفنون الزخرفية على جدارٍ واحد.
وإذا كان فن الغرافيتي؛ قد ظهر في أوروبا بعد كوارث الحروب؛ فإنّ الفن (المخولي)؛ ظهر في سورية تحت قذائف الهاون التي كان يقذفها الإرهابيون على دمشق من مختلف جهاتها خلال حرب السنوات العشر على سورية.
غواية الكلمة
وفي نصه السردي، وهنا أصل لكتابه (مخوليّات)؛ يكشف مخول عن كاتبٍ ساخر مُفعم بالتهكم والهجاء أحياناً حتى من نفسه.. وكان الظن أنه سيُقدم ما يُماثله من روح كاريكاتورية في اللوحة والجدارية؛ وإذا به يُقدمه على العكس تماماً.. فبقدر ما يذهب بعيداً في الكوميديا في النص السردي والمفتوح على مختلف الأخطاء الإملائية والنحوية؛ فإنه يُقدّم لوحة بمنتهى التراجيديا.. وكأنّ مخول يُقدّم الحياة بوجهيها تماماً كما (لوغو) المسرح المعروف: الحزين والضاحك، ذلك أنّ الكثير من (شرُّ البليّة ما يُضحك)، وهي المقولة التي شكلت المُفارقة في مختلف نصوص مخول.. ومثل هذا الخلط في (التراجوكوميدي)؛ يأتي الموقف الكوميدي والساخر الذي يقوم على تحويل المحنة إلى ابتسامة، أو على الأقل تقبلها بابتسامة، وربما هذا ما يُماثله في اللوحة التي تتوهج مع أنّ شواغلها فجائعة.. وهنا نُشير إلى أن مخول بدأ حياته الإبداعية فنان كاريكاتير في الصحف المحلية، غير أنه سرعان ما تحوّل عنه خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت حينها الساحة محجوزة لبعض الأسماء دون غيرها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار