في رابعتها الشعرية .. لجينة نبهان تُشعل حرائقها الخضراء في متوالياتٍ كتماوج حقول القمح
«كلُّ الرجال الذين ظنّوا أنهم أحبوني؛
كانوا يحبّون أخرى تُشبهني،
ولأني لا أجيدُ أن أكونَ غيري؛
اخترتُ أن أمضي بعيداً
نظيفة القلب..
الرجلُ الوحيدُ الذي أحببتهُ؛
أرسلَ لي كلَّ أشباهه
دون أن يأتي..»
على مدى سبعٍ وسبعين (متوالية) اختارت الشاعرة لُجينة نبهان أن تُصدر رابعتها الشعرية (حرائق خضراء) الصادرة مؤخراً عن دار سويد بدمشق.. قصائد انسلت من عناوينها، تسردها تماماً كموجات حقول القمح بين يدي الريح، مرةً تطول الموجة – الدفقة الشعرية، لتأخذ مساحة صفحتين أو أكثر، ومرةً تنسحرُ الموجة لتصيرَ كنسمة صيف، فلا تتجاوز العشر كلمات، وهي تُقارب (الهايكو).
نصوص لمجموعة شعرية، تمنحُ قارئها أكثر من خيارٍ للقراءة، فهذه النصوص التي تتفيأ ظلَّ عنوانٍ وحيدٍ، هو عنوان المجموعة، لا يفصلُ بينها غير رقم (المتوالية)، وللقارئ كل الخيارات في أن يبدأ القراءة من الرقم الذي يُريده، فهو قد يرى أن الشاعرة لم تكتب سوى نصٍّ وحيدٍ بعنوان وحيد، أو قصيدة واحدة أخذت كل بياض المجموعة، بمعنى يُمكن للمُتلقي أن يقرأ المجموعة كقصيدة، واحدة، أو بإمكانه أن يقرأها على أنها (سبع وسبعين) نصّاً أو قصيدة، وما الأرقام التي فضلت ألا تعتلي الصفحات، وإنما تضعها عندما ترى أن الومضة أو المتوالية وصلت لاكتمالها أو لإتمامها، غير أن الرقم هنا لا يعدو أكثر من فاصل توقف كإشارة مرور للعبور للمتوالية التالية من دون أن يكون ثمة حاجز أو نهاية لآخر الطريق.
«كنتُ فراشةً مرةً،
ومرةً كنتُ ناراً،
واحترقتُ في التجليين..
في كلِّ فراشةٍ؛ قبسٌ يبحثُ عن ناره،
وما من نارٍ،
إلا وفيها أثرٌ من فراشة ..»
ولأنّ الأمر كذلك، اختارت الشاعرة أن تُقدم نصها على مبدأ المتواليات، التي جاءت أقرب لتنويعات شعرية، لم تختلف من حيث الشكل فقط، أي بالنسبة لطول المتوالية وقصرها، وإنما جاءت تنويعات من حيث الشواغل الشعرية، وحتى من حيث اللغة أيضاً.. بمعنى كان ثمة إصرار لدى الشاعرة نبهان على شيءٍ من (الملحمية) فيما يُشبه العودة، أو قل تيمناً بالنص الشعري الأول عندما كان الشعر (ملحميّاً) خلال تكوينه الأول.
فاللغة التي تنوس بين الحميمية المُعاشة، بحيث تساعدها لتُقدّم النص اليومي الذي يتفاعل مع الحواس مُباشرةً، هنا حيث للنص ملمسٌ وذوق أي طعم، ويُمكن أن يُشمّ رائحة ما، من المفردات أو التراكيب الشعرية، وبين النص الذي يأخذ أبعاداً فكرية وفلسفية، والذي غالباً ما يأتي كمقولة أو حكمة حارة بعد تجربةٍ عاصفة.. ففي الوجه الأول للغة نقرأ هذا النص الشعري بكامل دفء الحكاية، والتباسها حيث تقصّ لنا القصة التالية:
«لم يُحذرني أبي من الحبّ؛
أذكر، قال لي:
لا تعبري الشّارع
حين تمر السيّارات!
لكن السيّارات تمرُّ دائماً!
أو لعلي لم أفهم عليه تماماً!
لكنني وفي النهاية،
ولأنّ أبي يثق بي،
لم أعبرهُ فعلاً،
وهكذا
بقيتْ الحياةُ
على الرصيف الآخر..»
مثل نصوص كهذه تكثر، والشاعرة تقوم بإشعال الـ«حرائق خضراء»، حتى تكادُ تُشكل نصف متوالياتها، غير أنها في الوجه الآخر للغة، تذهب صوب المقولة الفكرية، التي هي خلاصة حكمةٍ فلسفية، وربما من هنا يأتي النص أكثر تكثيفاً، كأنه يقول الحكمة دفعةً واحدة، ومن ثمّ من غير الجدوى لسرد الحكاية؛ فتكون المتواليات من قُصارى القول، وقد تأتي أشبه بالتعريفات لبعض المُصطلحات، لكنه التعريف الشعري الذي يأتي على أجنحة وجدانيات المجاز:
«قلتُ للسجّان:
أعدْ لي جناحيّ؛
فقايضني عليهما بالريح!
فهمتُ حينها؛
أيةُ حرية قد تحصل عليها
بمُقايضة!»
وقد تنوس اللغة بين وجهيها في النص الواحد، ومثل هذه الصياغة من العمارة الشعرية جربتّها نبهان في أكثر من متوالية، سواء طال إيقاع الدفقة الشعرية، أم انحسر لمستوى نسمة.
«كلُّ الورود التي قطفتُها ذبُلت
دون أن تجعلني رحيقاً!
كلُّ اللحظات التي اعتقدتُ أنني اصطدتُها؛
اصطادتني،
وصيرتني أسيرة مُستحيلٍ
لا يُغفر..
كلُّ الأزرار التي لم أحلّها؛
حبستني خارج جسدي..»
هذا لجهة اللغة؛ بينما لجهة الشواغل فقد تعددت غايات القصيدة، وأغراضها، بأكثر ما تعددت مستويات اللغة الحاملة للنص وأفكاره.. فمن نص عن الحرب، الذي حضر بغير مستوى من النصوص، إلى نص عن الخراب، إلى نص عن الحب، إلى نص التأمل، وهي في هذه التنويعات من الشواغل لم تُراع كثيراً أو قليلاً مسألة (التبويب)، بمعنى لم تجمع المتواليات ذات الهمّ الواحد مع بعضها، أو تتوالى خلف بعضها، مثل نصوص الحب (مثلاً)، وهكذا نصوص عن الحرب وغيرها.. وإنما بثت كل ذلك معاً بمستوى أقرب إلى التناوب، فبعد نص الحب أو غيره قد يأتي نص عن الحرب، وذلك في تناوب هو الآخر يبدو مُتشبهاً بالمتواليات نفسها.. غير أن ما يجمع بين كل هذه التنويعات من (المتواليات) أكثر من قيمة جمالية؛ منها مثلاً: يأتي إلغاء التفاصيل لإبراز البؤرة الجمالية في النص، وهي تقوم بعمل أشبه بما يقوم به مهندس الإضاءة خلال العرض المسرحي؛ هنا حيث تصبح المتوالية الشعرية بكاملها بؤرة جمالية واحدة، وهو ما يُفضي إلى قصيدة (الرؤيا) المُتخففة من الكثير من الترهل والتفاصيل، لمصلحة نصٍّ ميزته الأولى الغنى بالإيحاءات، التي تُقدم بما يُشبه الموقف للشاعر من الحياة، وبما يجري فيها بشكلٍ عام.. نصوص يجمع بينها: الأناقة، السلاسة، والتجدد، التي تُفعمها بالإيحاء الذي يُبعدها عن المباشرة إلى الضفة الأخرى.. وذلك من خلال ومضات أخذت مستوى مُعيناً من التلقي، أي النص الذي يمنح المُتلقي انطباعاً ما يتراوح بين: متوالية فكر، متوالية إحساس، متوالية صورة، متوالية الحكمة، ومتوالية الموقف، وقد تكون في المتوالية كلَّ ما ذُكر، غير أنّ ملمحاً ما هنا يكون واضحاً أكثر من غيره.. وإذا ما أردت التفصيل أكثر في هذا الحيز الضيق – المقال؛ أقول: إن ومضة الفكرة هي تلك المتوالية التي تحمل معنى عميقاً، بينما متوالية الإحساس هي تلك التي تبوح من خلالها بحالة ما مُفعمة بالمشاعر الدافقة، ومتوالية الحكمة، تكون خلالها الفكرة حكمة استخلصتها الشاعرة من خبرتها الحياتية، أو هي توحي بذلك، أما متوالية الصورة، فهي التي تصوّر من خلالها الشاعرة مشهداً تُقارب من خلاله ما يقوم به الفنان التشكيلي في اللوحة، وغير ذلك الكثير.
وهكذا بهدوء وبأناقة على أكثر من مستوى؛ تحجزُ لجينة نبهان لنصها مكانه اللائق في (ديوان الشعر السوري)؛ أقول بهدوء؛ فهي ومنذ سنة 2015 أصدرت أولى مجموعاتها الشعرية (لستُ سوى بعضي) عن دار أرواد في طرطوس، وبعدها بسنة واحدة فقط أي في 2016 أصدرت ثاني مجموعاتها الشعرية، التي تبدأ عنوانها بـ(ليس) أيضاً، (ليس كلّ هذا الحريق)، وعن الدار ذاتها كذلك.. أما مجموعتها الثالثة فكانت (الحرب خُدعة بصرية)، لكن هذه المرة عن دار بعل في دمشق، واليوم تُصدر نبهان رابعتها الشعرية (حرائق خضراء).. بمعنى كان نتاج الشاعرة نبهان كله، ومثلها أكثر من شاعرٍ وشاعرة سورية؛ قدموا كل نصوصهم خلال حرب السنوات العشر على سورية، ورغم هذا النتاج الثّر للشاعرة غير أنه تمّ بهدوء الكاهن المُتأمل الذي يقرأ كل ما يجري أمامه، ومن ثمّ كان عليه أن يُدوّن شهادته كمُعادل من المجاز الإبداعي؛ كلُّ ذلك من دون ادعاء أو جعجعة، بل إن الأمر تمّ بشكلٍ أقرب إلى نوع من المغامرة والغواية الشعرية، والإحساس العالي بوظيفة الكلمة، ووظيفة الأدب بشكلٍ عام، نصوص شعرية تسعى من خلالها للتّكامل مع فراغات تحرص على وجودها في النص، لإمكانية شغل المُتلقي وإشراكه في ملئها.. ففي زمن الحرب ؛ «لا وقت للصمت/ عليك أن تحلم/ وحتى أن تجترَّ حُلمك.. وبين برقٍ، ورعد؛ عليك أن ترتادَ جسمك!/ وأن تُحصي حواسك العشرين، أو أكثر!/ .. وتسأل: هل مازلت أنتَ؟!».
وهو ما يقودنا للميزة الثانية في شغل الشاعرة نبهان؛ وأقصد بذلك (الأناقة)، التي تبدو جلية على غير مستوى: يبدأ من العناوين التي تختارها بعناية، وبعيون فنانٍ تشكيلي تسحره الغواية اللونية، أي تبدأ من الطباعة، وتصميم الغلاف وشكله (الطولاني) الذي يليق باحتواء بالنص الشعري، واختيار لوحات الغلاف، ولن ينتهي بالمفردة الأنيقة التي تقترح نصّاً شعريّاً، أمسى له مخزونه القاموسي في أسلوب الشاعرة نبهان.. وهي التي تغفو اليوم «على زند الكلام..».
حتى كأنّ المشروع الشعري لدى نبهان، كأنه يأتي كمن يطمح إلى صعود الجبال ليكتشف أنّ الهاوية، وقد أمست من كلِّ الاتجاهات، ونبهان نفسها التي طالما أغوتها مغامرة السقوط من علٍ، لكن بما يُشبه مغامرة الماء في أن يصيرَ شلالاً:
«مازالَ قرارُ الماء
بإلقاء نفسه في الهاوية؛
يُثيرُ شهيتي لفعلٍ مُماثل،
فليس أسمى من هاويةٍ تُحيلكَ شلالاً!»