بين النص وصاحبه .. حكاية تعالق والتباس وإبداع

في حال لم يجرِ نقله إلى قصيدة أو لوحة، يستمرُ الألم إلى الأبد صامتاً ووحيداً وداخل الجسد الذي يعاني, على ما يرى «كارلوس فوينتس», فيما ماريو فارغاس يوسيا يقول: إن الكتابة، أو الأدب؛ هو الاختراع الأفضل للوقاية من التعاسة.. أو هي – الكتابة – سكنٌ للذات، حارسٌ لها من الضياع.. ترميمٌ للفناء بعد الموت، قد يوقظنا أحد ما من القبر ويقول: لقد كانت هذه المرأة شاعرة, على ما تقول فرات إسبر.
إذاً، والحال كذلك؛ هل نُفسّر حجم السيرة الذاتية في النص الإبداعي، أيّاً كان ذلك النص، بمعنى أن النص هو مرآة أخرى للمبدع، أو أحد وجوهه، وهو مهما ادعى صاحبه من «موضوعية» وحيادية في البناء والصياغة؛ غير أنه لا يبتعد كثيراً عن ذاته، وكأن غاية المبدع طوال الوقت أن يُرسل بصوره الذاتية عبر رسائل مُشفّرة بين الكاتب والمُتلقي.
«طبقات الأطباء»
وتبدو اليوم كتب السيرة الذاتية التي لها الاهتمام الأول في التوزيع والانتشار والتلقي في العالم، وهي ليست بالضرورة الكتب التي يؤلفها الأدباء، بل إن سيراً ذاتية لرجال سياسة، أو ممرضات، وحتى ربات بيوت؛ حققت من الشهرة ما يفوق الوصف!!.
وفي المنطقة العربية؛ عرف القراء الكثير من كُتب السيرة، وفي تعقّب أولى السير الذاتية في العالم العربي؛ ثمة من يُصنف كتاب «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (1203 -1269م) على أنه كتاب في السيرة الذاتية، وذلك في تتبعه لحياة ابن سينا، كعلاقة هذا الطبيب الوثيقة مع طلابه، واعتداده بنفسه، وهو الذي كان يرى أنه لم يكن هناك مدينة بحجم ذكائه، وأنه كان لديه عادة، أنه يعيد النظر بكل معارفه كل عشر سنوات، وكانت ذاكرته أهم مراجعه على الإطلاق، وفي الليل على سبيل المثال كان يعيش حياة مُفرطة في المجون..
«المكر النفسي»
مع ذلك فإن السيرة الذاتية ليست مرآة صاحبها فقط، أو ما يريد منها صاحبها ولها أن تقدمه، لأننا نكاد لا نرى في السيرة إلا ما يريد «وعي ولا وعي» الراوي إظهاره، وربما في أحيان كثيرة لانرى فيما نقرأ، أو يُخال لنا أننا نرى في المرآة إلا أنفسنا، فنحن على الأرجح – كما يقول محمد كامل الخطيب- إنما نقرأ في سير الآخرين سيرنا كما نرغب أن نكون، أو كما نرغب أن نكتبها، واصفين تجاربنا وحيواتنا، تاركين عبء «نرجسية» وصراحة السيرة الذاتية على الآخرين.. إنها ببساطة تحويل مرآة الآخر إلى بديل لمرآة الذات، وربما يكون ذلك ضرباً من المكر النفسي والعقلي..
من هنا عندما تناول السيرة الذاتية لحياة ابن سينا في مسلسل درامي مصري، فإنه لم يقدم ذلك الجانب المخفي من سيرة ذلك العالم, وإنما كرّس المعروف من حياته، على العكس تماماً مما فعله الراحل ممدوح عدوان عندما أعاد قراءة الزير سالم – على سبيل المثال – فقد قدّم قراءة تُخالف المعروف عنه، وذلك بأن خلع عنه أثواب الأسطورة، التي كانت تضيّع شخصيته أنه كان من «آلهة» أم من البشر، وهذا الأمر لم يتوفر لعمل (أبو زيد الهلالي) الذي بقي يدور بقالب السيرة الشعبية المعروفة لدى الكثير من الناس، كما لم تقدم كل الأعمال الدرامية التي قُدمت عن شخصية صلاح الدين الأيوبي أي جديد لا يعرفه حتى المتلقي العادي، إذ بقيت تلك الأعمال تدور بذات المربع والدائرة من المتعارف عليه، وذات الأمر لو قارنّا بين مسلسل أم كلثوم، وبين العمل الذي قُدم عن (أديث بايف) الفرنسية، ففيما كرس العمل الأول «المهابة» المتعارف عليها لأم كلثوم، وغيّب بالكامل الجانب المخفي من حياتها، وهو الجانب الحافل، والوجه الآخر لما هو معروف، فيما بيّن العمل الآخر – الفرنسي – الجانب الشخصي الإنساني لـ(بايف)، وكما بقي الزير سالم تلك الشخصية المُحببة في الذاكرة الشعبية بعد المسلسل هذا إن لم تزيدها، كذلك لم يُنقص كشف الجانب الإنساني لأديث بايف من محبة الناس لها، ومن ثم تصوير الأشخاص على إيقاع واحد حتى لو كان «النُبل»، فلن يجعلهم «آلهة» ولا أنصافها، وإنما هو نوع من الميتافيزيقيا المُنفرة، وكأنهم ليسوا من لحمٍ ودم، وليسوا من (الخطائين)..!
فيما يرى الكثيرون أنّ مذكّرات السياسيّين لا تذهب نحو الكشف، وإنما نحو الإخفاء، ولو زعمت أنها تفتح مجاهيل الأبواب الخلفية للسياسة، ومثل هذه المذكرات – برأيهم – تقتات من الصراعات والتجاذبات السرية للحكومات.. مذكرات لا تكتب اعتباطاً، وإنما بهدف عاجل، عادة بعد مغادرة مناصبهم، فما كتبه السياسي كان لهذا الزمن، ولغاية محددة وواضحة، هي الدفاع عن سياساته، وإسباغ الأهمية على فاعلية دوره، بل يكتب السياسيون مذكراتهم للأحياء فقط، لا للتاريخ، ولا يطمحون بأكثر من ذلك.
«شيء من الذات»

وفي العودة للنص وصاحبه؛ فالأكيد أنّ ثمة تعالقاً بين النص وكاتبه، وهذه حقيقة مهما حاول الكاتب أن يزعم أن ثمة مسافة بينه وبين نصه، حتى عندما يكتب «المؤلف» عن الآخرين لابدّ أن يضع شيئاً من ذاته في تلك النصوص التي يكتبها عنهم، ومع ذلك فإن هذه «الكتابة الذاتية» تتشابك مع ذوات الآخرين في أكثر من منعطف، لتصير الأنا الجمعية هي الأخرى ظاهرة في العمل الإبداعي الحقيقي، ذلك النص الذي لامفرّ لقارئه أن يجد فيه شيئاً منه.. فالقصيدة برغم إغراقها في الذاتية هي شيء شخصي يهم الآخرين كما يردد أكثر من ناقدٍ وشاعر، برغم أن إليوت، يقول: إن الشعر؛ هو هروب من الأنا، وليس تعبيراً عنها..
«الكاتب مُتلبساً بذاته»
وفي كل الأحوال، ربما من هنا كانت تلك المحاولات لبعض النقاد، وحتى لبعض القراء، أو المتلقي لأي نص إبداعي بما فيها اللوحة التشكيلية، والفيلم السينمائي؛ في «القبض» على المبدع مُتلبساً وإسقاط وقائع النص على وقائع الكاتب، أو الفنان..!
وحسب الروائي إبراهيم أصلان، فإن كل عمل إبداعي، وفي أي مجال من المجالات، هو سيرة على نحو أو آخر، حتى لو لم يتعلق الأمر بتجربة الكاتب، أو سيرته الشخصية.
برغم هذا التقاطع بين هذه «الأنات» أو «الأنوات» فإن ثمة اتجاهاً اليوم لكتابة السيرة الذاتيةً، سواء كتبها الشخص- المؤلف ذاته عن نفسه، أو تمّ تكليف آخرين بكتابتها، وهذا الاتجاه ليس في الكتابة وحسب، بل في الإنتاج الدرامي والسينمائي أيضاً، وحتى في اللوحة التشكيلية، التي أخذت هي الأخرى هذا الجانب الشخصي، وثمة قراءات جديدة للوحات كبار الفنانين التشكيليين في العالم، تؤكد تصوير ذواتهم في الكثير من أعمالهم الفنية..
يذكر الشاعر والناقد سعد الدّين كُليب: لا مبالغة ولا مجاز إذا ما قلت إنّ الحرية لم تجد مساحة حقيقية لها في تاريخ البشرية، كما وجدتها في الفنّ.. وقريباً من هذا القول؛ ذكر مرةً بابلو بيكاسو: إنّ الفن يمسح عن الروح غبار الحياه اليومية.. وشطح أكثر من ذلك «دوستويفسكي» حينما قال: إن الجمال سينقذ العالم.
وذلك حين تستطيع البشرية إنجاز مشروعها الإنساني الأرقى، ويقصد فردوسها المفترض، فلن تفعل أكثر من إنجاز الفنّ في الواقع.. من هنا يدعو كُليب للتمسك بالفنّ حتى لا ننسى أنّ ثمة حلماً إنسانياً ممتعاً، ولنستمسك به أيضاً ضد غيلان التفاهة والقباحة والفظاعة جميعاً.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار