لم يُتّهم شعب بنبذ الآخر مثلما اتُّهم العرب قديماً، وربّما، حديثاً أيضاً. ولكيلا نتجنّب التجوال العشوائي في متاهة المصطلح، نشير إلى أن المتحدّد بالعرب هم السكّان الأصليّون لشبه الجزيرة العربية بأقاليمها المعروفة عبر التاريخ. والبحث يجري في بوادي تلك الجزيرة العربية الشاسعة من الناحية المكانية، وعلى تخوم ظهور الإسلام، وبدايات انتشاره من الناحية الزمانية, والواضح أنّ القطاعين الزماني والمكاني مجال شاسع للتَوَهان والضياع، أكثر ممّا هما مجال ممكن للبحث, ولذلك نستحسن المزيد من التقييد المرتهن بالحطيئة الشاعر، بوصفه علامة فارقة في تاريخنا الثقافي، وبوصفه شاهداً «صادقاً» على عصر ظلّ ردحاً طويلاً عصراً إشكاليّاً لدى أبنائه، إلى أن ترسّخ انتصار الإسلام من الناحيتين السياسية والعقائدية، لكنه ظلّ عصراً إشكاليّاً لدى الحطيئة من الناحيتين السياسية والعقائدية أيضاً.
الآخر بشطريه المقبول حتى التبجيل، والمرفوض حتى اللعن والنبذ الأقصى مفهوم إشكاليّ، بدءاً بالحدود التي تبدأ منها آخريّة الآخر؛ فالذات الفردية للغاية متخمة بالآخر والآخرين، قبولاً ونبذاً، وصولاً إلى أنّ الذات الفردية نفسها يمكن أن تنبذ كثيراً من صورها، وحالاتها، على غرار ما يحدث للواحد منّا في نظرته إلى مراحل عديدة من ماضيه، وماضيه الطفولي على سبيل المزيد من التخصيص، بحيث يبدو «الأنا/الطفل» أو «الأنا/المراهق» مجرّد آخر، وربما في أحسن الأحوال مرآة من مرايا الذات، أو شظية من المرايا المتعدّدة الكثيرة للذات الواحدة، والآخر الملتبس بالأنا على حد سواء.
وفي مجتمعات الجزيرة العربية قبل الإسلام، يتحدّث التاريخ، بما يشبه الإقرار عن أنّ القبيلة كانت بمنزلة الدولة, وكانت آخرية الآخر تبدأ ممّا يلي انتماءه القبلي، مع وجود تدرجّات كانت قائمة في ذلك الخصوص، كالانقسام العمودي بين قبائل الشمال وقبائل الجنوب، والانقسام الآخر الأعمق بين العرب بمجملهم والأقوام المجاورة غير العربية كالأحباش والفرس والروم, ولكن الآخر على الوجه الأغلب كان هو الآخر القبلي حسب الشعر الواصل إلينا من تلك المرحلة القديمة في التاريخ.
والآخرية لم تكن تقف عند الآخر القبلي بطبيعة تلك الحال القديمة، فالآخر موجود ضمن بطون القبيلة الواحدة، وأفخاذها وأطرافها, وهو موجود أيضاً بين المنتمي إلى القبيلة بالولادة، والمنتمي إليها بالولاء, وهو موجود بقوّة طاغية في الانقسام الأفقي للقبيلة الواحدة، أي بين أشراف القبيلة وعوامّها، وبين أغنيائها وفقرائها. وفي هذا الفالق الأفقي، وُلد الحطيئة، مكبوساً منذ لحظة ولادته بالتدنية إلى القاع الاجتماعي على الأصعدة كلّها، وُلد بوصفه «آخر» ضمن قبيلته ذاتها.