رحلة في أثر خُطا كاريكاتورية.. هل وصل فن الكاريكاتور إلى مرافئه الأخيرة؟!!
منذ زمنٍ طويلٍ – ربما من بداية نشوئه – بقي الكاريكاتير فناً متأرجحاً بين التشكيل والصحافة، حيث شكلت له الأخيرة منبره الحقيقي، وربما بقيت لزمنٍ طويل – المنبر شبه الوحيد ليُكشف الكاريكاتور عن تكويناته التعبيرية وصياغته اللغوية والخطية، وفي مواربته هذه، أو من خلال هذه الحالة «الكاريكاتورية» التي مشى عليها الكاريكاتير، ربما جاءت وظيفته «الخلاسية والمخاتلة» هذه، فلا هو حسم أمره كفن، ولا هو حسم أمره كنوع صحفي، غير إنه بقي يتلمس خطوطه العامة بما امتلكه من قدرة عالية على التعبير والتشخيص لمجمل القضايا والإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والغوص في أدق وأعمق التفاصيل فيها مُعبّراً عنها بخطوطٍ بسيطة ذات مضامين مؤثرة.
وأمام هذا التأرجح الطويل لإبداع الكاريكاتير بين التشكيل والصحافة، فإنّه لم يُعوّل كثيراً – وربما كانت هذه أحدى نكباته – على التشكيل، بدليل ندرة معارض الكاريكاتير، وندرة الصالات الفنية التي تحتفي بمعارض كهذه، بل وعدم تسويق الكاريكاتير كأعمال فنية في سوق الفن.. إلى أن جاءت الطعنة لهذا الإبداع مع بداية السنة الماضية (2020)، والتي كانت الهدّامة لحاضنه الأساسي منذ انتشاره، وأقصد بذلك الصحافة الورقية التي كانت أول ضحايا وباء الكورونا، هذا التوقف للإصدار الورقي الذي كان مهّداً له، ومنافساً ضروساً للصحافة الإلكترونية منذ أكثر من عقدين من السنين، ومن ثمّ لتنضوي الورقية تحت جناح الإلكترونية، وإلى الأبد.. والتي يبدو أنّ الأخيرة – الإلكترونية لم تحتفِ بالكاريكاتير كما يليق بتاريخه، لا كفن تشكيلي، ولا كنوع صحفي، حتى يبدو اليوم، وكأن نجم هذا الإبداع – الكاريكاتور قد وصل إلى أفوله الأخير..!!، وهو ما يُفسر اليوم اختفاء الأسماء المُهمة، في مجال هذا الإبداع، وحتى غياب أقطابه، وكأنّ الجيل الذي عاصر آخر أيام الصحافية الورقية، قد أوصل مراكبه إلى مرافئها الأخيرة..!!
وفي المدونة لفنّ الكاريكاتير؛ فإنّ أكثر من مرجع يؤكد، أنّ كلمة «كاريكاتير، أو كاريكاتور»، كانت إيطالية المنشأ، وهي تعني على وجه الدقة: تصوير فني ساخر لطباع وصفات وتصرفات، وأوضاع بشرية معينة، يتناول النمطي فيها بمبالغة لاذعة، ويجعلها بتحريف صائب عرضة للهزء.. وسائله في ذلك؛ اختزال الموضوع إلى علاماته المميزة، وتضخيمها.
إيطالي المنشأ
وهو وإن كان إيطالي المنشأ، غير أن الفنان المصري بهجت عثمان؛ يزعم أنّ إرهاصاته قديمة وبعيدة جداً، ربما تعود لزمن الفراعنة، ذلك أن هناك برديات كثيرة وجد عليها رسومات كاريكاتورية كفرس النهر، وهو يحط كعصفور على شجرة، واكتشف عثمان أن صورة الطائر الذي يضع سلماً ليصعد الشجرة – والتي يتشدق برسمه الفنانون المعاصرون – قديمة جداً وتعود إلى «أجداده» الفراعنة!
وفي البحث عن التأصيل لهذا الفنّ – الذي ضيّع أصله – وجد الكثير من الباحثين أن ما اشتغل عليه كل من الجاحظ، ابن الرومي، وجحا، وشخصية كراكوز وعيواظ في السرد العربي بشكلٍ عام، كانت كلها إرهاصات أولى لما تطورت عليه فنون الكاريكاتور اليوم، وفي أوروبا القرون الوسطى كان من الصعب تمييز الكاريكاتير عن الفن الزخرفي المسمى «غروتسك»، وأما كشكل فني مستقل، فلم يعرف له وجود قبل القرن التاسع عشر، ولاسيما مع انتشار الطباعة، خلال الثورة البرجوازية الباكرة وكان الكاريكاتير أداة هامة في الصراع الإيديولوجي.
ممهدون أوائل
والمُدهش أن عدداً من الباحثين وجدوا أن ليوناردو دافنشي (1452-1519) و(دورر) الألماني (1471-1528) ساهما في تطور هذا الفن «الضال»، وذلك من خلال دراستهما لمعالم الوجه بمنحى كاريكاتيري، وبعد ذلك طُوّر بتطبيقه على أشخاص معينين من خلال الإيطاليين كراتسي (1557-1602) وبرنيني (1598-1680)، كما استخدم الهولندي بروغل (1568-1625)، والفرنسي كالو (1592-1635)؛ الشغل على النحاس لفضح الأحوال الاجتماعية السيئة، وبذلك كانا دليلين لرسومات ونقوش الناقدين الاجتماعيين الإنكليز «هوغارت، كركسانك، جيلاري، ورولاندس»، الذين أصبحوا بدورهم في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الممهدين الرئيسين لطريق الكاريكاتير الحديث، وهنا ستكثر الأسماء الغربية التي ساهمت بعد ذلك في وضع، أو محاولة وضع هذا الفن المشاكس على سكته، وصولاً إلى ممارسته من قبل الكثيرين كمهمة فنية ومهنة رئيسة.
شوام في مصر
غير أنه في العالم العربي لم يتجرأ هذا الفن للدخول؛ إلا مع بداية القرن العشرين، عندما أدخله (الشوام) إلى مصر كما يؤكد ذلك بهجت عثمان نفسه، وذلك مع خلال مجلة «أبو نظارة» ليعقوب صنوع – المجلة الفكاهية «رسماً وكتابة»، وكان صنوع أول من استخدم الكاريكاتور بمفهومه الحديث، وذلك منذ سنة 1925، ثم برز الفنان الأرمني – وفي مصر أيضاً – صاروخان الذي اشتغل في مجلتي (روز اليوسف، وآخر ساعة)، وذلك في مواجهة متمصر آخر هو «ساليتس»، الذي كان يرسم لمجلة «الكشكول»، ثم لتبرز مجموعة كبيرة بعد ذلك، اتخذت هذا الشكل التعبيري الذي أضحك وأبكى في الآن ذاته.
وفي سورية التي صدّرت فنانيها إلى مصر ليخلقوا هذا الفن، كانت صدرت أول صحيفة هزلية «ظهرك بالك» عام 1909، وظهر بعد ذلك عشرات فناني الكاريكاتير أمثال: توفيق طارق، عبد الوهاب أبو السعود، عبد اللطيف شوالي، علي أرناؤوط، خالد العسلي، كما برز في خمسينيات القرن الماضي: عبد اللطيف مارديني، وسمير كحالة، وممتاز البحرة، وغيرهم الكثير بعد ذلك.
ومنذ أربعينيات القرن الماضي تقريباً، بدأت تجارب الرسوم الكاريكاتيرية في سورية، فقد كان عبد اللطيف شوالي يرسم وجوهاً برؤية سياسية مع بعض التحريف، وفي مرحلة ثانية جاء عبد اللطيف مارديني، وممتاز البحرة، إلى أن بدأت تجربة جيل عبد الله بصمه جي ،(1957- 2018)، وكانت مفصلاً – في رأي البعض، وفي رأي الآخرين فقد أخذت أكثر من حجمها – فقد انتقل الكاريكاتير من مرحلة الريبورتاج في اللوحة إلى مرحلة التعبير بالرسومات، وأصبح ثمة مصطلح شاع كثيراً «من دون تعليق» عبارة لطالما أثارت انتباه الكثير من المتابعين والمتلقين لهذا الفن الساخر – الكايكاتور – ومن ثم أصبحت تشكّل خطاً، ومن بعد ذلك مدرسة انضمّ إليها الكثيرون، ليس في سورية وحسب، بل وفي مختلف مناطق العالم العربي، فقد كان الكايكاتور هامشياً في الأنواع الصحفية، وحتى العمل الكاريكاتوري الذي كان يتم إنجازه في الصحيفة، كان يمكن الاستغناء عنه، والاكتفاء بالتعليق المجاور، وكان أن انتقل هذا الفن، أو حتى هذا النوع الصحفي – لمن يصر على أنه كذلك – من الهامشية إلى المتن، ومن التهريج إلى التحليل الذهني، وإشغال الفكر بتحميله المضامين الإنسانية العالية.
كاريكا – هاجم
ويبدو الكاريكاتور السوري اليوم على مفترق طرق، بعد فقدانه لحامله الأساسي- الصحافة الورقية، وبين المتلقي سواء على صفحات الجريدة المُفتقدة اليوم، أو حتى في معارض الكاريكاتوريين، إضافةً إلى مسافة الرقابة – وهذه في كل العالم العربي- وهذه كانت ضد معنى هذا الفن وأصله، إذ يكفي أن نعرف أن كلمة كاريكاتور مشتقة من الكلمة الاثينية «كاريكا» والتي تعني «هاجم»؛ حتى نعرف أن طبيعة هذا الفن مُخالفة لأي شكل من أشكال المصادرة واللجم والتقييد..
صحيح؛ إنه كان لفن الكاريكاتير، محاولات مُبكرة، وحتى قبل اختراع الصحافة الإلكترونية، في إيجاد حوامل – منابر لعرض نتاجه.. ولاسيما من خلال استثمار بعض الفنانين لوسائل الإعلام التقليدية الأخرى تحديداً التلفزيون – في لبنان على سبيل المثال -، غير أنها كانت محاولات محدودة، ولم يتسع حضن التلفزيون للكاريكاتير كما اتسع حضن الصحافة الورقية.
واليوم؛ فإنّ هذا الإبداع في تحدٍّ مع ذاته، في كيفية استثمار وسائل التواصل الاجتماعي التي هي بحق تُعدّ اليوم (السلطة الخامسة)، إن لم تكن قد صارت الأولى، ليُعيد نفسه، ويستعد لانطلاقة جديدة، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً!!