عن شعراء يرسمون .. ورحلة التشكيل مع النص السردي
ثمة شيءٌ ما؛ كالكيمياء ربما، بين الشعر والتشكيل.. وربما كان الإبداع الأول الذي اهتدى إليه أول كائن بشري عندما أصبح إنساناً، أي عندما امتلك وعياً، ومن ثمّ «وعياً جميلاً»، بمعنى صار «مُبدعاً», كان أن شكّل حالة شعرية من كلا الشعر والتشكيل، وذلك عندما قطع من أشيائه الضرورية حتى لغذائه من شحوم ودهون، وأدوات صيد، وكذلك وقتاً مُهماً كان يُمكن أن يستثمره لأجل أمانه وحياته في بطن كهفٍ أو مُغارة، ونحت على الجدران أول محاولة إبداعية تجمعُ بين الشعر والتشكيل؛ تلك تكوينات من الرموز التي شكّل من خلالها المدونة الإبداعية الأولى في الكون..
ومنذ إنسان الكهف قبل التاريخ بآلاف السنين إلى أن بقي الشعرُ والرسم منجدلين في الكثير من المُشتركات، ولاسيما في مجال «الصورة»، مرةً تُرسم بالكلمات، وأخرى تتشكّل بالتكوين، وثالثة بالجمع بينهما، وصولاً إلى الشاعر الفنان، أو الفنان الشاعر، وأدونيس، ونزيه أبو عفش؛ ليسا النموذجين الوحيدين على هذه الحالة من الإبداع في المشهد الثقافي السوري، وإن كانا الأروع في حالة «الشاعر – الفنان»..
” تبصّر خليليّ؛ هل ترى من ظعائن
تحملن بالعلياء من فوق جَرثمِ
جعلن القنان عن يمينٍ وحزنهُ
و كم بالقنان من محلٍّ و محرم
وعالين أنماطاً عتاقاً وكلّةً
ورِاد الحواشي لونها لون عندم ”
ما تقدّم من أبيات شعرية؛ هي بعض ما رسمه بالكلمات شعراً، الشاعر زهير بن أبي سلمى، في تصويره رحلة الظعائن، خلال تنقلات القبيلة من مرعى إلى آخر، ومن نبعٍ إلى نبع، والتصوير، أي بلغة هذه الأيام «التشكيل»؛ كانت مهمة جمالية، يقعُ عبء تجسيدها على الشاعر، الذي كان إلى حدّ كبير، فناناً تشكيلياً، لكن ليس بالألوان والريشة، وإنما سيقدم مشاهده بالكلمات، وغير زهير بن أبي سلمى، سنعثرُ على عشرات الشعراء الذين قدموا مشاهدهم التصويرية رسماً بالكلمات، بل أنّ جميع الشعراء، مارسوا هذا النوع من التصوير.. ولعلّ مُعلقة إمرئ القيس، وفي الكثير من أبياتها؛ فإن الرجل لا يرسم فقط، وإنما يُقدّمُ مشاهد سينما حقيقية:
“مِــكَــرٍّ مِــفَــرٍّ مُــقْــبِــلٍ مُــدْبِــرٍ مَــعــاً
كَــجُلْـمُوْدِ صَـخْرٍ حَطَّهُ السَّـيْلُ مِنْ عَلِ
كَـمَـيْـتٍ يَـزِلُّ الـلَّـبْـدُ عَـنْ حَـالِ مَــتْــنِـهِ
كَــمَــا زَلَّــتِ الـصَّـفْــوَاءُ بِــالــمُـتَـنَـزَّلِ”
تعالق بين القصيدة و اللوحة
أي إن الشعر، وباعتباره «الصيغة الجبرية الأسمى للاستعارات» كانت له هذه الامتدادات باتجاه الأجناس الإبداعية الأخرى – على ما يرى الناقد صلاح صالح – ومن ثمّ كانت هذه الحالة من التعالق بين القصيدة واللوحة، فإذا كان من مهام القصيدة، ولاتزال بالتأكيد، تقديم لوحة ملونة بالكلمات، غير أنه جرى وعلى مدار عقود من السنين مؤخراً نوعاً من «الإلهام» المتبادل بين اللوحة والقصيدة، الأولى – القصيدة – تُقدم ألوانها بكل شاعريتها، والثانية – اللوحة – تقدم شاعريتها بكل ألوانها، ومن ثم كان هناك عشرات المعارض، والكتب التي أقيمت، أو أصدرت؛ مشى خلالها الشعرُ والتشكيل متجاورين، حتى إن ثمة تجارب أخرى كان خلالها الشاعر هو نفسه فناناً تشكيلياً، أو بالعكس، وهنا تبدو تجربة الشاعرين أدونيس، وكذلك نزيه أبو عفش المثال الأوضح في هذا المجال، سواء كشاعر تشكيلي، كان له شغله اللوني ومعارضه التشكيلية إلى جانب القول الشعري، أو مساهماته العديدة في المعارض والكتب «الشعرية التشكيلية», ونذكر هنا تجربة أدونيس مع الفنانين التشكيليين: زياد دلول، وعلي مقوص، وكاظم خليل، وآخرون غيرهم.
وغنيٌّ عن القول: إن جميع المدارس والمذاهب الأدبية، من انطباعية، وسوريالية، ورمزية، وواقعية، ومختلف هذه الاتجاهات والمدارس، كان لها معادلاتها في القصيدة واللوحة.
وفي الغرب رصد الكثير من النقاد مظاهر هذه الحالة «الرومانسية» في التعالق بين القصيدة واللوحة، فرامبو في قصيدته «أوفيليا» – على سبيل المثال – استوحى موضوعها من لوحة الرسام الإنكليزي ميلز، والاثنان – كما بات معروف أيضاً – أخذ موضوعهما عن هاملت شكسبير، كذلك لوحة بروغال «العميان السبعة»؛ كان بودلير جسدها بالعنوان نفسه في ديوانه «أزهار الشر»، وثمة الكثير من تسجيل هذه المظاهر المتماهية كلماتٍ وألوان.
القصيدة البصرية
حتى إن اليوم ثمة من يتحدث عن مصطلح «القصيدة البصرية» والتي يراها الشاعر ثائر زين الدين؛ أنها تأتي كمحاولات شكلانيّة في تغيير جغرافية القصيدة العربيّة الثابتة بقوّة على الشكل التقليدي لعمود الشعر، والذي انطلقَ من جمالية فطريّة تعلن عن جمالية مبدأ التماثل الثنائي بين الشطرين بشكلٍ أفقي يحتفظ بمساحة تمثّل النفس الواجب بين الشطرين لإجادةِ الإلقاء ولإبراز الموسيقا الشعرية بشكلٍ أفضل، ويمكن أن نتلمّس البدايات الأولى للقصيدة البصريّة في الشعر العربي فيما سُميّ: الشعِر المُسمّط والموشّح والمشُجرّ، والشعر الهندسي بأشكالِهِ المختلفة.
ورحلة التشكيل مع النص السردي، سواء كان شعراً أم نثراً، ليست جديدة، ولعلّ أقدمها في هذا المجال، ما لونّه الواسطي لمقامات الحريري، ذلك الكتاب ذي الصيت الذائع، الذي دشّن عصراً من فنون المنمنمات الشهيرة.. تلك الرسومات التوضيحية، التي تزيّن المخطوطات ونتخيّل شكلها الصغير، وهي مهرجانات من الألوان في صورٍ يفصلها عن بعضها صفحات مكتوبة، ولها مقاربات في الصين والهند، غير أنّ ما يُقابلها في الطرف العربي يفوقها جماليات تشكيلية، وذلك على يد يحيى بن محمود الواسطي، بصفته واحداً من مصوري مقامات الحريري، الذي عبّر بالرسم عن مرحلة كاملة من مراحل يقظة الروح العربية خلال القرن السادس الهجري..
وشاعرٌ بحجم أدونيس، ما الذي يدفعه هو الآخر لأن يهجر القصيدة، ولو لبعض الوقت ليكون «دخيلاً» على التشكيل، كما يقول هو عن نفسه، في الحوار المفتوح مع محبيّه، على هامش معرض تشكيلي مشترك ذات حين في صالة الأتاسي بدمشق، مع كل من إيتيل عدنان، سمير الصايغ، وفاتح المدرس، تحت عنوان: «شعراء تشكيليون/ تشكيليون شعراء»، والذي نظم بجهد من الفنان التشكيلي السوري المقيم في باريس زياد دلول.. هذا المعرض الذي يقول عنه دلول: لأربعة مبدعين، يرتسم شكلاً رباعياً غير متوازي الأضلاع، كل رسام ـ شاعر ينظر إلى طاولته من منصةٍ مختلفةٍ تماماً.. صحيحٌ أن قاسمهم المشترك؛ هو الكتابة والرسم، ولكن اختلافهم أيضاً هو في تحديد علاقة الكتابة بالرسم، فمع استثناءات قليلة يعزل فاتح المدرس الكتابة عن رسومه، بينما يجعل أدونيس من نصوص الشعر، ومن كتابات غرافيكية نسيجاً حاملاً لكولّاجاته، وتكتب إيتيل عدنان باجتهادٍ صبور قصائدها وقصائد شعراء آخرين على أوراق وكتب أوكورديونية مرسومة ببقع مضاءة بالألوان المائية، ويخط سمير الصايغ ديوانه بيده، وفي لوحته يجتزء الحرف ليجرده، كشكلٍ غرافيكي مستقل بذاته…
هجرة مؤقتة
أدونيس، يؤكد اضطرابه من هذه الهجرة المؤقتة من القصيدة إلى التشكيل، ويؤكد: إنه ليس فناناً تشكيلياً، بل هو يخوض نوعاً من المغامرة ولا يعرف كيف ستنتهي، وهو أيضاً لا يسمي ما قدمه كولاجاً، بل «رقميات»، والرقمية هنا تساوي قصيدة، فهو يكتب ـ امتداداً لكتاباته الشعرية – وكما كان يحاول جمع المتناقضات في القصيدة بين المجرد إلى أقصاه، والمحسوس إلى أقصاه، يحاول بالتشكيل الجمع بين المجرد الحرفي والأشياء المرمية في الشارع، ويعطي معنى ما، لهذه الأطراف المتناقضة، بل يكتب قصيدة أخرى إلى جانب قصائده، ويضيف: ومع ذلك إذا شرحت ما اشتغلت سأقول أشياء أخرى، ذلك أن أجهل الناس بأعمالهم هم الفنانون.. وكل هذه الأعمال أيضاً، هي نوع من المصادفة، تماماً كما القصيدة..
غير أنه، ولأن القصيدة هي الأقدم في مجال « التصوير» – على الأقل في الجزيرة العربية- فقد كانت الغلبة لها في كل النتاجات التي جاءت كخلاصة لهذين الفنين الجماليين، بمعنى أن اللوحة هي من كانت تتكئ على القصيدة لتقدم شاعريتها اللونية، أو بمعنى آخر كانت القصيدة هي الباعث للوحة، ونادراً ما جاء النتاج الجمالي عكس ذلك، ومثله نجده عند ثائر زين الدين في الكثير من قصائده!