الفنان التشكيلي عيسى سلامة.. يُبدع بين الاستدارات المطمئنة والوجوه الحالمة بالأجمل
بملامح وجه أوغاريتيٍّ قديم، تُغطي أكثر من نصفه لحيةٌ بيضاء ناصعة كفيلسوف إغريقيّ عتيق، فيما تتكفلّ بالنصف الباقي قبعةٌ مستديرة قليلاً ما تُفارق رأسه، لكن كلّ ذلك لا يخفي ابتسامة عينين عميقتين أتاح لهما المكان الذي يعلو أكثر من قمة للنظر لآفاقٍ بعيدة، في سعيه الدائم لأن يرى للعالم شكلاً آخر، بدل الغرق في تفاصيله المتراكمة، والتي تبدو تافهة في أحيان كثيرة.
حارس الدريكية
بهذه الهيئة – التي تبدو أزلية – يستقبلك الفنان التشكيلي السوري عيسى سلامة، الذي فضّل البقاء على بريته الأولى بجوار قريته كأنه حارسها، والتي تبدو هي الأخرى في أول فينيقيتها في حفافي وسفوح الجبال شمال بانياس، في قرية (الدريكية) التي أصبح عيسى أحد معالمها لكثرة ما (بحبش) في زوايا حواكيرها وحراجها وحجارتها، منذ زمنٍ أمسى اليوم بعيداً، يوم استطاع فيه أن يحمل إزميلاً ومطرقة، وراح حينها يعبثّ على الصخور الكلسية، تلك الصخور التي وفرتها بيئة المكان في البداية، ثم لتصير مختلف الخامات حوامل جمالية لأفكار هذا (الكاهن التشكيلي) الذي اختار العيش بين الصخور، فراح يعملُ فيها نحتاً وتشكيلاتٍ متنوعة لعلّها تُقدم له حقيقةً ما؛ يبحث عنها كسائحٍ ديني سحره التأمل الطويل عن ضالته في سفوح الجبال وقممها.
يذكر عيسى: (بدأت مع الأعمال الواقعية، التي تصوّر الواقع ثمّ انتقلت فيما بعد الى الفن التشكيلي الحديث، وقد استخدمت في هذه الأعمال الخامة الصخرية من البيئة التي أعيشُ فيها، ومازلت حتى الآن أختار هذه الصخور بنفسي، وأفضلها على أنواع الرخام الأخرى.. فهناك مثلاً حجر العنازة – قرية مجاورة لقريته في ريف طرطوس- وهو حجر جميل وقوي جداً ومتماسك، وأعتقد أن كل أعمالي تحمل هويتي؛ فهي تُميزني، ومن يراها مجتمعة يعرف أنها نتاجي، لأنها تحمل بصمة موحدة، ويعود أمر ذلك إلى التدريب اليومي الذي بدأته منذ الصغر فاكتسبت يداي وأدواتي المهارة التلقائية التي جعلتني أقدّم أعمالاً إبداعية تتجاوز الأنماط الثابتة ومُسبقة الصنع).
الجمال من حولك
يتذكر عيسى مرحلة البدايات هذه بالكثير من الشغف والحميمية، كأنها تعطيه طاقةً تدفعه دائماً للبحث عن أفكار، التي قالوا له إنها ملقيةٌ على قارعة الطريق، وما عليه إلا التقاطها، ومن ثم صياغتها بمعادلٍ جمالي. يقول: (أبديت منذ الصغر اهتماماً بالنحت، وأثناء دراستي في المرحلة الابتدائية كنت أقوم بنحت الأشياء الموجودة في البيئة المحيطة بنا كمحاريث الفلاحين، ومشهد النساء على عين الماء، و.. حتى حيوانات البيئة من داجنة وبرية..)، ويضيف: أتذكر أن أول معرض لي هو معرض (الزملاء) أو معرض (القرية) الذي أقمته في قريتي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وقدمت حينها المنحوتات كهدايا للأصدقاء لعلّي أكسبُ شهرةً ما). و..لزمن سيبدو طويلاً، ثمة غياهب سيضيع فيها عيسى سلامة، قبل أن يجد طريقه إلى ملتقيات النحت السورية، التي شهدتها سورية قبل الحرب عليها، ثم لتقوم بعد ذلك باستئنافها مرة أخرى وقد أصبح الجرحُ عصيّاً على الاندمال. ومن ثم مشاركاً ومقيماً لعشرات المعارض التي احتفت بتنويعات منحوتاته.
تلك المنحوتات التي أخذت الكثير من ملامح ذلك الفينيقي القديم الذي استطاب العيش في تفاصيل (الدريكية)، حيث من عتبتها يبدأ العالم، من عالم هذه القرية الضائعة والناعسة بين جبال بانياس والقدموس؛ ينهمك عيسى سلامة على الخامات المختلفة تبدأ من خشب زيتون الدريكية، ولن تنتهي عند رخام وصوان العنازة، الضيعة القريبة من الدريكية في ريف بانياس، صخور تتنوع من أكثرها هشاشة كالكلس إلى أصلبها وأكثرها قسوةً وقساوة كالبازلت والرخام وحتى حجارة الصوان.
عن قلب الصخر
تلك القساوة أو القسوة التي راح سلامة يروّضها، ويخلصها من الصلابة صوب حنان الاستدارات والتكوّر متجهاً صوب فراديس مفقودة كأرحام الأمهات.. الاستدارة، حتى لا أقول الدائرة لما توحي به من حالةٍ هندسية، ذلك أن سلامة سيخفف من (صرامة هندستها) ليأخذ منها كأجمل أشكال الدنيا تناظراً، تلك الفرجة التي ستفتح لهذا الفنان شبابيك للجمال، وتكريس الاستدارة كجمال تراه العين متجسداً في مختلف منحوتاته. فرغم صرامة تلك الحجارة التي يتعامل معها سلامة، فإنّ الانحناء سيُعطي الكثير من الراحة والطمأنينة التي تُفجرها تلك الاستدارات، وذلك في محاكاة لما خلقه الله من دوائر مُدهشة أدهشت كائناته الأخرى على مرّ الدهور، وذلك منذ قرص الشمس في أولى مشاهداته وحتى القمر في الليالي الطويلة، وما سيُشابههما من أوراق الشجر والنباتات التي تذهبُ جميعها صوب الاستدارة، هنا يبدو التدوير أو السعي إليه كفطرة إيمانية وصولاً لقطرات الماء.
نوافذ الغروب
من هنا أيضاً؛ ستأخذ الكثير من منحوتات عيسى سلامة ما يوحي بهذا التدوير، كما أطلق ذات حين على إحدى منحوتاته (نوافذ الغروب) مستلهماً إياه من قرص الشمس وقد أصبح على تماس لوني مدهش مع البحر.
يشتغل الفنان سلامة في الكثير من أعماله على استغلال الخامة بما توفره هي كخامة من جماليات، فيقوم على سبيل المثال بدراسة طبيعة الخشب، مستخدماً الفراغات التي فيه، لتبقى من أصل اللوحة وأرضيتها، حيث يفرد الوجوه باتجاهٍ تصاعدي يتلوى ملامساً بعضها ومنطلقاً في سماء اللوحة عبر الحركة المتوجهة إلى نقطة محددة، إذ يؤدي الفراغ فيها دوراً كبيراً تسامياً يتحد في رحابة السماء وأثيريتها.. كما يُمثّل عمله شجرة الحياة بارتفاع المترين، والتي يتفرع منها الكثير من الوجوه التي يُمكن قراءة تعابيرها بمختلف المشاعر الإنسانية من حب وفرح وحزن، و.. غير ذلك.. تلك الوجوه التي سيشتغل عليها مرةً أخرى لكن على الرخام هذه المرة، وذلك بشغله على العمل النحتي الأهم لديه (وسام الشهادة)، فقد نحت سلامة ما يُقارب سبعة عشر وجهاً في هذه المنحوتة التي ينطلق فيها من قبر الشهيد، ومن ثم ترتفع وصولاً للعلم السوري وشعار الجيش، حيث تميلُ تلك الوجوه صوب حالةٍ حلمية غامضة لهؤلاء الشهداء الذين يتسامون من أم خصبة أو يتناسلون.. عمل نحتي مُفعم بالرموز، وهي ما ستمنحه من تقديم قراءاتٍ كثيرة، ويحتاج الكثير من التأمل.
و.. هكذا تنوس أعمال الفنان سلامة بين الاستدارات الأنثوية التي سعى إليها بكل الراحة التي تقدمها تلك الانحناءات المُطمئنة، وبين وجوهٍ حالمة بالأجمل القادم.
بقي أن نشير إلى أن الفنان عيسى سلامة (تولد طرطوس 1962) أقام أكثر من ثلاثة عشر معرضاَ فردياً في النحت، كما شارك فيما يُقارب خمسين معرضاً جماعياً، وفي عشرات الملتقيات النحتية.