الوجيز في التشكيل
تماماً كما وصلت إليه الحال لدى الكثير من كتّاب القصة والرواية، وكذلك عند الشعراء، في هذا الميل لإنتاج النص القصير، أو ما عُرف خلال السنوات العشر الأخيرة بـ(الأدب الوجيز).. كذلك انتقل مثل هذا الاقتصاد الإبداعي من (قُصارى القول) إلى الفنون البصرية، مثل الفيلم السينمائي، وإن استقر الحال بالمسلسل التلفزيوني عند الثلاثين حلقة كما «أوصت» بذلك المحطات الفضائية المشترية والمنتجة، رغم أنّ منصات مواقع التواصل الاجتماعي؛ تقوم اليوم بكسر هذه الوصية – القاعدة الثلاثينية؛ وذلك في العودة للرباعيّات والخماسيّات والسباعيّات من الحلقات الدرامية، ولهذا مقال آخر سنعود إليه..
التشكيليون أيضاً وصلتهم عدوى الإنجاز القصير، ومنذ زمن إلى حدٍّ ما، درجت أكثر من صالة تشكيلية على تقديم اللوحة الصغيرة، منها صالة الشعب التابعة لاتحاد الفنانين التشكيليين، وصالة الفري هاند، وصالة كامل، وجميعها في دمشق، وصالة هيشون في اللاذقية.
غير أنه في فضاء التشكيل اختلفت الآراء بشأن الباعث لإنتاج اللوحة الصغيرة منها على سبيل المثال طبيعة البيوت الحديثة التي مالت هي بدورها إلى الصغر، ومن ثم فإنّ جدرانها لم تعد تتحمل فضاء اللوحة الكبيرة والجدارية التي صار مكانها المناسب بهو الفنادق وجدران المتاحف والمؤسسات والصالات الكبيرة، وغيرها، وثمة باعث آخر يراه الكثيرون وهو الجانب التسويقي، لأن الشاري قد لا يكون بإمكانه شراء اللوحة الكبيرة، وغير ذلك من «البواعث».
لكن لجهة الشغل الفني – وهذا ما يهمنا في هذا المقال- فقد ماثلت اللوحة الصغيرة ما انسحب عليها من الأجناس الإبداعية الأخرى ولاسيما من الأدب كما في القصة القصيرة جداً، أو القصيدة الومضة، وحتى بكثافة الفيلم السينمائي القصير.. وإن كان الأمر يختلف قليلاً في مجال التشكيل، إذ إنّ الموضوع هنا لم يكن هو من قرر المساحة كما في الأجناس الإبداعية في الأدب على سبيل المثال، وإنما كانت المقدرة الإبداعية للفنان التشكيلي في طرح الموضوع ذاته مرةً بصورة كبيرة، وأخرى بصورة صغيرة من دون أن يغيّر أمر المساحة (الكبر والصغر) في شيء.. لكنه يتفق مع تلك الأجناس الإبداعية التي تميل إلى القصر في الوصول للحالة الإبداعية بشكلٍ أسرع، تماماً كما فعلت القصيدة القصيرة عندما أراحت القارئ من عناء قراءة كامل القصيدة ليصل إلى «بيت القصيد» هنا أيضاً وصل متلقي اللوحة إلى «بيت التشكيل» بالطريقة ذاتها، مع إنّ اللوحة الصغيرة تخلق حالة من الحميمية أثناء إنجازها، كما يذكر عدد من الفنانين، قد لا تتوافر عند إنجاز اللوحة الكبيرة، بل ثمة الكثير من الفنانين التشكيليين قد لا يستطيعون الانسجام مع عملهم إلا أثناء تنفيذ اللوحات الكبيرة، لكن كلتا اللوحتين تبيّن أنها تحتاج الأشياء ذاتها من الفنان: الومضة المبدعة، والتمكن من التقنية، والقدرة على صنع مناخ لوني، وبصري يستطيع التأثير في المتلقي، ومشاهد اللوحة..
تتوافر في لوحات معرض اللوحة الصغيرة العناصر الفنية كلها من حيث التكوين، والتشكيل، فهي ليست «ماكيت» كما عند الكثير من الفنانين للوحة أكبر، وقد نتفاجأ أحياناً بلوحات عالمية كنا نظنها كبيرة الحجم لشهرتها، وإذ هي في الحقيقة لوحة صغيرة، فالجوكندا على سبيل المثال أبعادها (50-7/سم) حتى إن فناناً مثل فان غوغ كانت أهم لوحاته أبعادها بين (30/40سم).