عالم بلا خرائط
استعرت هذا العنوان من رواية العظيمين جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، جذبني العنوان لأنه ينطبق على عالم اليوم. هذا العالم الذي بدا لنا ذات يوم من العام 1989 وكأنه عالم الخرائط الجديدة بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية طفت على الخريطة دول جديدة سواء تلك التي نتجت عن تفتت الاتحاد السوفييتي أو تلك التي نجمت عن دول اشتراكية سابقة مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
رغم ما بدت عليه تلك الحدود من قسوة وحدّة، إلا أنها لم تستطع منع موجة العولمة التي اجتاحت العالم. بقيت الحدود السياسية مرسومة على الخرائط لكن موجة العولمة عبثت بكل شيء داخل هذه الحدود من السياسة إلى الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية. أصبحت الخرائط بلا معنى ولا تصلح إلا لتعليقها على الجدران أو وضعها خلفية لنشرات الأخبار على التلفزيون. أنت مجبر على إجراء تعديلات على اقتصاد بلادك بما يتناسب مع معايير اقتصاد السوق وشروط منظمة التجارة العالمية، ومعاملة مواطنيك وتعديل تشريعاتك حسب الشروط الاجتماعية الليبرالية، بل إنك لا تستطيع التعامل مع نادي كرة قدم محلي خارج شروط الاتحاد الدولي لكرة القدم.
اقتنعت الرأسمالية بأن العولمة هي الخريطة النهائية للعالم، بعد إجراء بعض التعديلات المحلية التي تركت للشعوب مجالاً لممارسة بعض طقوسها كالزواج واللباس وبعض الشعائر الدينية- لكن العام 2008 شهد الانهيار المالي العظيم، وجدت الرأسمالية نفسها خالية الوفاض من أي موجودات يمكن بيعها أو تسييلها لسد العجز في موازناتها.
تحولت أوروبا إلى مجموعة من الدول المفلسة، بل إن دولاً مثل آيسلندا واليونان والبرتغال وصلت حافة الانهيار، واضطر السيد الرأسمالي إلى التنازل عن عنجهيته وبيع جنسيات بلاده للمستثمرين، في محاولة لإنعاش دورته الاقتصادية.
لم يكن أمام الرأسمالية من خيار سوى العودة إلى شكلها التقليدي القائم على إنتاج البضائع وبيعها للمستهلكين. على عكس مرحلة العولمة التي كانت تتطلب أسواقاً واسعة قادرة على ممارسة ألاعيب الرأسمالية المالية والمساهمة في انتعاش أسواق المال في المركز الأوروبي.
جاءت مرحلة الرأسمالية التقليدية التي تتطلب دولاً غير قادرة على الإنتاج والمنافسة لتتحول إلى أسواق لتصريف المنتجات الرأسمالية.
لموائمة هذا الواقع الجديد كان لا بد من العودة إلى الخرائط والتلاعب بها من جديد. لا يختلف ما يحدث في العالم منذ مطلع هذا القرن، عن الحقبة الاستعمارية التي انطلقت في بدايات القرن الماضي. رغم استخدام التقنيات العسكرية المتقدمة، والحروب بالوكالة وما سمي بحروب الجيل الخامس، إلا أن الوسائل كانت متطابقة تماماً.
فتقسيم الدول على أسس دينية وطائفية وإثنية ما زال السلاح التي تستخدمه الرأسمالية وإن كان تحت مسميات جديدة مثل “الديمقراطية” و”التعددية الثقافية”. لنتخيل أن دولة مثل لبنان لا تتجاوز مساحتها 10 آلاف كيلومتر مربع، وعدد سكانها أقل من عدد سكان مدينة مثل القاهرة، تقوم الرأسمالية برعاية تفتيتها تحت شعار التعدد الثقافي.!
لعل “الربيع العربي” هو المثال الأبرز المحفور في أذهاننا، لما تركه من مآس طالت –تقريباً– كل منزل في وطننا، إلا أننا لو نظرنا حولنا لم تقتصر على وطننا وبدأت قبل الربيع المزعوم. فغزو العراق نجح جزئياً في تقسيم العراق خاصة من خلال ترسيخ وجود الكيان الكردي في الشمال، وجنوب السودان سُلخ عن الوطن اليوم ليشكل جمهورية هشة تكاد تقارب في مساحتها مساحة فرنسا بتعداد سكان لا يتجاوز الملايين الثلاثة وثروات طبيعة ضخمة لا يقدرون على استثمارها.
وانفجرت الصراعات في تشاد ومالي وماينمار، وقاموا باختراع قضية قومية الإيغور في الصين، بل إنها سعت إلى تقسيم الاتحاد الأوروبي بخروج بريطانيا منه بدعم واضح من الولايات المتحدة.
جاء “الربيع العربي” وتفاعلاته في محاولة لإعادة رسم خريطة ما يسمى “الشرق الأوسط”. هذه المنطقة التي تسيطر على أهم ثلاثة ممرات مائية في العالم (مضائق هرمز وباب المندب وقناة السويس)، وتمتلك دولها مخزونات من المال والثروات الطبيعة غير مستغلة إلا في متع الحكام ومغامراتهم. والأهم أنها الدول الأقرب جغرافيا إلى الخصم الاقتصادي الأكثر خطورة الذي تمثله الصين.
بدت الأمور وكأن الرأسمالية تحقق النجاحات المطلوبة، وأننا على أبواب عالم بخرائط جديدة. لكن أيلول 2015 شهد دخولاً مدوياً لروسيا إلى مسرح الأحداث العالمية، من خلال مشاركتها الجيش العربي السوري في معركته ضد الإرهاب. واتبعت ذلك باسترجاع القرم من أوكرانيا، راسمة حدوداً جديدة للمواجهة الدولية.
تصاعد الدوران الروسي والصيني على مدى السنوات الست الماضية، وتجمدت الخرائط بانتظار ما ستسفر عنه المواجهة السياسية الاقتصادية الدولية.
لكن السؤال الذي لم يُطرح، أو لعله بقي من دون إجابة هو: هل للشعوب المُستهدفة مصلحة في تغيير خرائط العالم؟
قد تكون الإجابة البدهية بالنفي، خاصة إذا كان التغيير جزءاً من يالطا جديدة تعيد تقسيم مناطق النفوذ في العالم. لكن من زاوية أخرى قد تكون للشعوب مصلحة حقيقية في إزالة الحدود التي فرضتها الحقبة الاستعمارية. لعل أمتنا هي الأكثر استفادة من زوال هذه الحدود. لا أتحدث هنا عن الوحدة بين الأنظمة السياسية التي استهلكت جهود العمل القومي على مدى عقود من دون فائدة ترجى. الحديث هنا عن وحدة الشعوب من خلال؛ وحدة القضية المتمثلة في الصراع مع الرأسمالية العالمية ورأس حربتها الكيان الصهيوني، ووحدة المصير الذي يرى ما يصيب أي جزء من الأمة ليس سوى جزء من المؤامرة على الأمة وأن انتقال السكان من جزء إلى جزء آخر من الوطن ليس لجوء، بل تفصيل من تفاصيل المعركة ضد الأمة، ووحدة الاقتصاد من خلال المشاريع الاقتصادية المشتركة وتشجيع التبادل على مستوى التعليم والثقافة والنشاطات الفنية.
في عالم بلا خرائط التقى الفلسطيني المقيم في بغداد جبرا إبراهيم جبرا، بالسعودي المولود في عمّان والمقيم والمدفون في دمشق عبد الرحمن منيف. اليوم نحن بحاجة أن تعود بلادنا بلا خرائط أولاً في وعينا ثم على الأرض.
كاتب من الأردن