عادات بادت ثم عادت .. قتل عيدة نتاج تقاليد عادت للظهور بسبب سيطرة المجموعات المسلحة

اجتاحت جريمة قتل الفتاة عيدة ابنة حي الزهور في الحسكة ذات السبعة عشر ربيعاً قبل أيام من قبل إخوتها وأبناء عمومتها (غسلاً للعار وبدافع شريف) كما يقولون، العالم بسبب السوشيال ميديا. ولولا ذلك لما سمع بها أحد مثلها مثل العديد من الجرائم المشابهة التي تقع كل يوم وربما كل ساعة في كافة أنحاء المجتمعات العربية وحتى غير العربية.
هذه الجريمة البشعة وغيرها من الجرائم التي تكثر في المناطق الواقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة، بسبب غياب الأمن والقانون وفوضى انتشار السلاح والفساد. ولهذا لم نسمع حتى الآن عن إلقاء القبض على الجناة الذين لم يتواروا عن الأنظار في المناطق الواقعة خارج سيطرة الجيش العربي السوري عن عبث، ولاسيما أننا لم نسمع عن إلقاء القبض على مرتكبي العديد من الجرائم في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة. لكن المؤكد أن القضاء في الدولة السورية تحرك منذ علمه بمقتل الفتاة عيدة وأصدر المحامي العام في الحسكة القاضي المستشار سالم الصياح مذكرة إلقاء قبض بحق مرتكبي تلك الجريمة.
فحسب المحامي الأستاذ اسماعيل الزبيدي وهو من المحامين المخضرمين في محافظة الحسكة إن جريمة قتل الفتاة عيدة ما هي إلا نتاج العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في المناطق الشرقية من سورية في السنوات الماضية، لكنها بادت وانقرضت بفعل التطور الذي شهدته المحافظة، وانتشار التعليم، ووجود سلطة الدولة السورية التي تمنع مثل هذه العادات السيئة، التي تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة وعلى رأسها عادة (الحيار) نتيجة المشاكل والجرائم العديدة التي تسببت بها. ومنها جريمة قتل الفتاة عيدة. عدا عن كونها مخالفة للدين والشرع الذي يرفض زواج الفتيات بالإكراه دون موافقتهن، ويشترط رضاهن شخصياً على الزواج لكي يتم ويصبح صحيحاً من الناحية الشرعية. جاء في قوله تعالى في سورة النساء: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحـِل لكم أن ترثوا النساء كـُرهاً). وهذا نهي واضح عـن نكاح المرأة بغـيـر رضاها. لكن نتيجة لخروج العديد من المناطق عن سيطرة الدولة ووقوعها تحت سيطرة المجموعات المسلحة عادت تلك العادات البالية لتظهر وتسود من جديد.
ويُـبَـيّـن أن قتل عيدة تم بسبب وقوع (الحيار) من ابن عمها عليها عندما طلبها للزواج فرفضته لأنها تحب شخصاً آخر، (فحيّرها) لنفسه لكنها هربت مع من مال قلبها إليه فلحق بها إخوتها وأبناء عمومتها وأمسكوا بها قبل اجتيازها الحدود السورية العراقية في منطقة المالكية أقصى شمال شرق الحسكة وسورية وقاموا بقتلها “غسلاً للعار الذي لحق بهم” من جراء هروب ابنة القبيلة عيدة مع شخص رفض أهلها تزويجها منه.
ويوضح الزبيدي أن (الحيار) هـو أن يفـرض أحد أبناء العمومة عـلى ولي فـتاة ما عـدم تزويجها إلاّ منه. والعـُرف يقضي عـندئذ أن تبقى الفـتاة عـالة عـلى أهـلها إذا رفضت ابن العم المذكور زوجاً لها، حتى تدخل سن الـيأس أو يموت أحد الطرفـين. وكم من فتاة بقيت دون زواج حتى مماتها بسبب عادة (الحيار)، ورَفْـض أحد أبناء عمومتها زواجها من غيره أو تبقى عازبة مدى الحياة، إن لم توافق على الزواج من ابن عمها الذي يسمى (المُحَـيـّر). أي أنه بسبب هذه العادة إما أن تكون الفتاة لابن عمها أو تبقى دون زواج حتى الموت، فهي إما له أو للقبر. وهذا ما حدث تماماً بالنسبة لعيدة. هذه الجريمة التي هي نتاج العادات والتقاليد البالية في المجتمعات الانقسامية التي يقوم تنظيمها الاجتماعي على ثلاثة أسس، هي رابطة الدم، ورابطة المكان، وعدم وضوح التفاضل الاجتماعي والاقتصادي بين الجماعات المكونة لذلك المجتمع، فالقتل يحطم القوة البشرية للأسرة، ويستنزف الأسرة اقتصادياً بشكل خاص والمجتمع والدولة بشكل عام، فأصبح المجتمع والفرد في الأرياف يعترف بحق الرد العدواني، والقتل لم يوجد في الأديان السماوية، ولكن وجد القصاص، أما القتل بدافع شريف كما حدث مع الفتاة عيدة فهو من وجهة نظر القانون السوري جريمة قتل مكتملة الأركان ولا أسباب مخففة لها لا دافع شريف ولا غيره.
ويختم الأستاذ الزبيدي بالقول إن عادة (الحيار) من أسوأ العادات الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة الأسرة. وقد وضع شُـرّاع القانون نصوصاً تؤدي إلى حماية حقوق الأفراد. فقانون الأحوال الشخصية السوري اعتبر الرضا ركناً من أركان عقد الزواج، وبدون الرضا الزواج غير صحيح، فالقانون لا يؤيد مطلقاً عادة (الحيار).

أما الباحثة المتخصصة بالدراسات الاجتماعية ربيعة المسيري فتقول: إن عادة (الحيار) وما ينتج عنها من قتل للفتيات بسبب رفضهن الزواج مجبرات من أحد أقاربهن من العادات الاجتماعية التي تحتاج لدراسات شاملة وعميقة لها، ولهذا نجد ندرة في الدراسات المتخصصة التي تتناول هذه الظاهرة تناولاً شاملاً من حيث الأبعاد: التاريخية، والجغرافية، والدينية، والاجتماعية، والقَبَلِيَّة، والسياسية، والجنائية، والقضائية، والنفسية، وغيرها من الأبعاد التي ترتبط بهذه الظاهرة الخطيرة.
ونظراً لندرة المصادر؛ وشح المراجع؛ ولأن الجرائم الناتجة عن العادات والتقاليد البالية كعادة (الحيار) تحتاج لدراسات ميدانية ومعايشات واقعية؛ ولصعوبة التقاء العينات الحقيقية والواقعية لهذه العادة؛ ونظراً لنفور مرتكبي تلك الجرائم من المقابلات الصحفية والالتقاء بالدارسين والباحثين والإعلاميين، ولتفضيلهم أن تظل قضاياهم بعيدة عن الأضواء؛ ولوجود محظورات أمنية حول البحث في بعض القضايا، ولوجود اتجاهات ودوافع سياسية معينة لدى القوى التي تحكم المناطق التي تنتشر فيها تلك الجرائم؛ ولوجود قوى قبلية لها حساباتها الخاصة؛ نظراً لجميع الأسباب السابقة ترى الباحثة المسيري أن دراسة هذه الجرائم تحيطها المصاعب من جميع الجوانب والاتجاهات.
وتقول إن العصبية القبلية والطائفية تلعب دوراً هاماً في تجذير العادات والتقاليد البالية وما ينتج عنها من جرائم بشعة في المجتمعات التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة. نظراً لقيام هذه المجموعات بتشجيع القبلية والعشائرية والطائفية، فمن الملاحظ أنه في المناطق التي تقوى فيها العصبية القبلية والطائفية وترتفع أهمية الانتماء القبلي والطائفي فيها، تكون نسبة الجرائم أكثر ارتفاعاً من المناطق الأخرى.
كما اتخذت المجموعات المسلحة من تلك العادات والتقاليد عصا غليظة لكسر شوكة القبائل والطوائف وترويضها، فضربت بعضها ببعض.
وتضيف الباحثة المسيري أن الكثير من الباحثين والمهتمين بتلك العادات والتقاليد التي بدأت بالعودة من جديد وما ينتج عنها من جرائم يرون أن للمجموعات المسلحة دوراً كبيراً في زرع وتفريخ تلك العادات وجرائمها في المجتمعات التي تسيطر عليها، وذلك لكسب ولاءات قبلية جديدة، أو لإقامة تحالفات جديدة، أو لضرب مجموعات مسلحة منافِسَة. حيث تسعى المجموعات المسلحة لزرع الفتن والقلاقل وسط السكان لتشغلهم عن موضوع السلطة، وهذا الأمر ينطبق على الحالة السورية تماماً.
وتؤكد أن لتلك الجرائم أسباباً عديدة في المناطق التي تنتشر فيها المجموعات المسلحة، أهمها:
1ــ النزاعات والخلافات الجغرافية.
2ــ انتشار السلاح.
3ــ ضعف الوازع الديني.
4ــ غياب سلطة الدولة المركزية.
5ــ ضعف أداء الجهاز الأمني، وضعف الجماعات المسلحة في ضبط الجناة الذين يقومون بقتل الغير. وفي محافظة الحسكة على سبيل المثال هناك الكثير من الجرائم التي وقعت في المناطق التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة ولم يتم كشف مرتكبيها، من ذلك جريمة قتل الباحث الدكتور سهيل عروسي في شقته التي حصلت منذ سنوات ولم يتم إلقاء القبض على الفاعلين لهذه الجريمة البشعة التي هزت يومها أركان محافظة الحسكة برمتها. وغير ذلك من جرائم القتل والسرقة والسلب والخطف.
6ــ ضعف أداء جهاز القضاء، وغياب العدل، وانتشار الفساد والرشوة والمحسوبية، وضعف تطبيق سلطة القانون.
7ــ الحروب القبلية والطائفية.
8ــ عدم القبول بالترافع أمام أجهزة القضاء وعدم الإبلاغ عن أسماء الجناة.
9ــ اتساع قضايا القطاع القبلي والطائفي .
10ــ مبدأ التكايل بالدم والذي كان مبدأً جاهلياً انتشر بين أهل الجاهلية.
11ــ انتشار ظاهرة الرُّبَاعَة القبلية، أي أن يَفِرَّ القاتلُ إلى قبيلة أخرى فَيَتَرَبَّعُ بها، أي يلتجئ إليها ويطلب حمايتها. مع العلم أن من الأعراف القبلية أعراف وعادات حميدة، وفي هذه الحالة يطلق على هذا الرجل الطالب للرباعة اسم: ربيع، والربيع نوعان: ربيع الغَوَى، ورَبِيع السَّوَى، أما الأول (ربيع الغَوَى) فهو الظالم المخطئ الذي يطلب الحماية، وأما الثاني (ربيع السَّوَى) فهو المظلوم المغلوب على حقه.
12ــ العصبية القبلية وانتشار بعض الأعراف والعادات القبلية السيئة الأخرى، ومنها: قتل الفتيات الرافضات للحيار.
وغير ذلك من الأسباب الثانوية.
وتقول أنه للقضاء على العادات والتقاليد البالية لابد من القيام بالعديد من الخطوات. أهمها:
1ــ تعزيز الوازع الديني لدى الأفراد.
2ــ سيطرة الدولة بكافة مؤسساتها الأمنية والقضائية وقيامها بواجباتها تجاه المجتمع.
3ــ تعزيز دور الجانب الأمني.
4ــ تفعيل دور جهاز القضاء، وتمكين أجهزة العدالة من القيام بواجباتها ومهامها بعيداً عن الضغوط القبلية والسياسية.
5ــ القضاء على ظاهرة حمل السلاح.

وتشير إلى أن قتل الفتاة عيدة يقع ضمن ظاهرة وأد الفتيات وهي من العادات السيئة، ومن بقايا الجاهلية التي كانت منتشرة قبل الإسلام، الذي ما إن أشرق بتعاليمه السمحة، حتى قضى على هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر السيئة كظاهرة القتل وشرّع القصاص، الذي يطبق بالعدل، ويقوم به ولي الأمر، وليس أحد الناس حتى لا تكون الحياة فوضى. ذلك أن من يؤجج رغبة القتل في المجتمع هو العادات والتقاليد القبلية المنبوذة ونعراتها بين مختلف القبائل والعشائر والعائلات فيما بينها، وغياب الدولة. من هنا فإن مقاومة الجرائم الناتجة عن العادات والتقاليد البالية تبدأ بتطبيق القانون، ولابد من قيام المؤسسات الدينية والتعليمية بالتوعية والإرشاد في هذا المجال.
وتؤكد المسيري أن العلاج يكمن في تطبيق القانون، وأن يطبق على الجميع سواسية، وخاصة في الأرياف دون محاباة لذوي النفوذ، لأن الظلم يولد عنفاً.
وتضيف: كما أن حصول المرأة في مجتمعنا على فرصتها من التعليم يسهم في تراجع العادات والتقاليد البالية. منها عادة (الحيار) وعادة الثأر وغيرهما من العادات التي تعد التنشئة هنا مهمة جداً للحد من انتشارها، وتبدأ بالاهتمام بالأم، التي تتولى تربية النشء، فإذا كانت الأم غير متعلمة عادة ما تنجب أطفالاً يحملون فكرة العنف، أما إذا علّمت أولادها السلوك الحميد لا يمكنهم أن يتجهوا للعنف، فهي دائماً تبني للنهوض والسلم ونبذ الخلافات والتسامح والاحتكام للقانون، فكلما كانت المرأة متعلمة ستنهض بنفسها وبمجتمعها، وستبحث في هذه الحالة عن مستقبل أفضل لها ولعائلتها ولأبنائها.
وخلاصة القول أن جريمة قتل الفتاة عيدة وغيرها من الجرائم التي ترتكب هي نتاج العادات والتقاليد البالية التي انقرضت أو كادت أن تنقرض، للأسباب التي شرحناها في هذا التحقيق الصحفي، ثم عادت من جديد مثل أفعى سامة قاتلة تطل برأسها من وكرها لكي تبث سمومها في جسد المجتمع، مثل عادة (الحيار) التي كانت الفتاة عيدة إحدى ضحاياها والتي أخذناها نموذجاً عن تلك العادات كونها الأكثر ضرراً وفتكاً بالمجتمع والدولة معاً، نظراً للمخاطر الجمة التي تنجم عنها إلى درجة القتل وإزهاق الأرواح، ستظل قائمة طالما توغل الجهل مع غياب القصاص السريع من الدولة المتمثلة في القضاء، وخاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المجموعات المسلحة وخارج سيطرة الدولة، إلى جانب غياب الوعي، ونشر مشاهد العنف واستمرار الدراما الثأرية، وتخلف المناهج المدرسية التي لا تنشر التسامح والمحبة والمؤاخاة منذ التنشئة.
وإذا أردنا الحل، لا بد من عودة جميع المناطق إلى سيطرة الدولة السورية بشكل عاجل وسريع، ويجب إقناع الناس بأهمية القانون وأن البشر سواسية، ونشر ذلك عن طريق مؤسسات الدولة المعنية بذلك ومنها مؤسسات المجتمع الأهلي.
aqtini58@gmail.com

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار